رأي أرثوذكسي في الحركة الكاريزماتية



الأخ ابراهيم عبود

تعدُّ ظاهرة الكاريزماتيك (المواهبية) من الظواهر القديمة في تاريخ الكنيسة و التي تثير الجدل باستمرار لكونها تنحرف بالإيمان المسيحي الصحيح، فضلاً عن استغلال الكنائس الغربية لها اليوم لجمع أكبر عدد من الناس دون الاكتراث بتأثيراتها الخطيرة على صعيد الفكر المسيحي وعيش الحياة الرّوحية الحقّة في ظرف زمني من سماته الفتور و ميوعة العقيدة وشموخ الإيمان الفردي و القناعات الشخصية السّاذجة على إيمان الكنيسة و إيمان قدّيسيها.

ما هي المعجزة؟ لا يمكننا وضع تحديد دقيق لمعنى المعجزة، فالمعجزة لها أشكال متنوّعة ولها شروط محدّدة لتكون معجزة بكل معنى الكلمة. المعجزة هي غالباً حدث فائق للطبيعة هدفه "خلاص الإنسان"، لا إثارة فضوله و ذهوله. وبما أنّ المعجزة فعل يفوق قوانين الطبيعة فهذا يعني عجز العلم عن الولوج إلى عمقها، لأنّ محتوى و مغزى وتفسير المعجزة يُحدَّد لاهوتيّاً، ففي عصر آباء الكنيسة القدماء لم يكن هناك علمٌ يحدِّد حقيقة أو بطلان أعجوبةٍ ما فكان تحديد صحّة الأعجوبة يُبنى على أسسٍ لاهوتيّة. وقد أورثتنا الكنيسة منذ عصر الرسل و إلى يومنا هذا لاهوتاً غنيّاً و دقيقاً يُعيننا على فهم معجزة ما والحكم على صحّتها وقبولها أو عدم قبولها. لا يمكننا فهم المعجزة أو الشفاء (إن كانا حقيقيين) إلا بفهم المغزى منهما و معرفة مصدرهما. المعجزة كخارقة تسعى للإبهار فارغة و عقيمة، لا بل يعتبرها الكتاب المقدس و القديسون في تراثنا فعلاً شيطانياً.

النبوّة أيضاً من المواهب التي يسعى إليها الإنسان للتحكم بالمجهول و معرفة قدره و هي موجودة في الكتاب المقدس في أمثلة كثيرة فيوسف تنبأ بالمجاعة في مصر و الأنبياء بسقوط أورشليم و في أعمال الرسل (إصحاح 21) تنبأ أغابوس بما سيحدث من اضطهاد للتلاميذ، و لكن السؤال هو في ماهية النبوة، فهل هي مجرّد علم بالمستقبل، و هل تأتي النبوة بمشيئة إنسان و في الوقت الذي يحدده؟ فالمسيح في أماكن كثيرة رفض البوح بما سيأتي للرسل فالأزمنة هي في علم الآب فقط (متى 24/36 و مرقس 13/32 مثلاً). في الناموس اللجوء إلى عرّافين و المشعوذين خطيئة عقوبتها الموت (19/31 و 20/6) و شاول الذي التجأ إلى "مبصّرة" لمعرفة المستقبل من صموئيل النبي الراقد خطئ و سقط بسبب تعدّيه هذه الوصية أيضاً (1 صموئيل 28/5-9). فأين الفرق بين النبوّة و العرافة بالضبط، و أين يقف الكتاب المقدس من ممارسات كثيرين من مدّعي النبوة اليوم؟

الشفاء من المرض أصبح أيضاً موضع دعاية دينية عند الكثيرين. منذ بدء التاريخ والإنسان يسعى جهده لمحاربة الأمراض بحسب معطيات محيطه و عصره، ففي الحضارات السّامية خُلط السحر بالطب فكانوا يرون في الجفاف أو العقم أو الموت شرّاً أو عقاباً إلهيّاً سببه خطيئة أو إثم ما، ويحاولون شفائه بمعرفة الشيطان المسبّب له، فلكلّ مرضٍ شيطانٌ ما يسبّبه. لقد نجح المصريون في اكتشاف أدوية لأمراضٍ كثيرةٍ، لكنّهم مع ذلك ظلّوا يتضرّعون إلى الآلهة ويتعاطون طقوس السّحر و الشّعوذة إلى جانب ذلك، فلم يكن هناك ما نسمّيه اليوم شفاءً طبيعيّاً، لقد اعتمدت الوثنيّة على الشّفاءات المعجزية، وتعدّدت آلهة الشّفاءات ومعابدها، ففي اليونان اشتهر الإلهان اسكليبيوس ابن أبولون و الإله سيرابيس الشّافيَين. وكانت هناك معابد كثيرة للآلهة برغامس و أبيدورس تجاورها مسارح و ملاعب و مستشفيات، ومعابد ممفيس المصريّة التي اشتهرت بشفاءاتها العجائبية، ومعابد أبولو و أرطاميس و منيرفا و ديانا الرّومانية و مدرسة كوس في الطب و التي كان يؤمّها المرضى للعلاج فكان يُدخل المريض إلى سرداب ليظهر له الإله و يخبره بالدّواء الشّافي في نومه، وكان يُرافق ذلك بطقوس ثمّ يذيع الكهنة الخبر على الجميع وتكون ردّة فعل الجمهور بعد التعريف عن المريض وكيفية شفائه عظيمة، ويتحدّث التاريخ عن حدوث حالات شفاء مدهشة، مقعدين مشوا وعميان أبصروا. كما نذكر كهنة أبيدورس الذين كانت لهم معجزاتهم، وكتّاب سير فيثاغورس و أبولونيوس وغيرهم. قد نتساءل لماذا يكثر الاعتقاد بالشفاء الرّوحاني؟ وكيف يمكن للنّاس اليوم أن يصدّقوا قصصاً و أحداثاً كهذه عن الوسطاء الرّوحانيين؟ في الحقيقة ليس هذا الاعتقاد الخرافي إلاّ نتيجة جهل وتفكير بدائي و وراثة نفسيّة تراكمت خلال عصور طويلة، كما تساهم عوامل نفسيّة و عاطفيّة أخرى في تدعيم الحاجة إلى الخوارق عندما ينعدم القبول بالواقع.

لقد وصلت هذه المعتقدات إلينا عبر تراكمات ثقافية و حضارية امتدت عصوراً و اختلطت بالمفهوم المسيحي للشّفاء وحرّفت نظرة المسيحيين إلى طبيعة النبوة و الشّفاءات العجائبية و شروطها و أهدافها. هذه الممارسات تخالف برأينا كلّ تسليم وترتيب كنسي و إنجيلي ونحن بالطبع نرفض أن يصبح مفهوم العنصرة مناسبةً لألاعيب الخفّة والشّعوذة، ولا نقبل أن يصبح الرّوح القدس أداةً في أيدي البعض ينزلونه و يصعدونه متى شاءوا و هم في حالةٍ من الهياج و الهذيان لم تسمع بها الكنيسة أو تمارسها يوماً، بل تناقض هذه المظاهر كلّ تسليمات الكنيسة فيما يتعلّق بالصّلاة و الأسرار ومفهوم الأشفية و إيمانها بشخص الرّوح القدس نفسه. نحن لا نشكك بأن الرب يعمل في خليقته بطرق تسمو على علم و منطق البشر و لكننا نسلط الضوء على أن الشيطان أيضاً عاملٌ في العالم بما يهدف إلى تضليلنا و ندعو المؤمن إلى التبصر و الحذر قبل القبول بأي نبوة أو معجزة. في تقليدنا المقدس الكثير عن هذا الموضوع و ما اقتبسته و جمعته هنا غيض من فيض أرجو منه الفائدة لكل مؤمن.

من هم "الكاريزماتيك" إذاً ؟ تعني كلمة كاريزما في اليونانيّة "موهبة" ويدّعي هؤلاء أنّهم يمتلكون مواهب الرّوح القدس التي تُذكر في الههد الجديد، بل يسعون جهدهم إلى امتلاك ما يسمّونه " التكلم باللّغات" و التنبؤ و الأشفية العلنية. إنّهم يصلّون بانفعالات نفسيّة و هياجات عاطفيّة تُبعدهم تماماً عن منطق الكنيسة ومواهب الكنيسة الحقيقية، وغالباً ما ينتظمون في أخويّات و فئات مستقلّة عن ترتيب الكنيسة، وكثيرون منهم ينظرون إلى الكهنة باحتقار لأنّهم لا يملكون المواهب المطلوبة. إنّ اتّسام جماعات الكاريزماتيك بالتعصّب و العاطفية يجعلها و إن فُضحت تستمر، إذ يختلق من بقي من أعضائها الأعذار لتبرير فشل "أنبيائهم" أو قادتهم فتعود وتظهر بشكلٍ جديدٍ أكثر تطوّراً و غرابةً و باسمٍ جديدٍ أيضاً. إنها إذاً فئة غير مسيحيّة أساساً و إيماناً و ممارسةً.

أصول هذه البدع

تعود جذور هذه البدع في المسيحيّة إلى هرطقات قديمة مزجت بين الوثنية و المسيحية. في أعمال الرسل (الإصحاح 8) نقرأ عن سيمون الساحر الذي ابتغى شراء موهبة الروح القدس من الرسل لاستثمارها في أضاليله. لعل أخطر هذه البدع في القرون الأولى هي تلك التي أسّسها مونتانس، و قد شكّلت بدعته خطراً كبيراً على الكنيسة، حتّى شنَّ آباء الكنيسة القدّيسون حرباً واسعةً ضدّها و ألّفوا المجامع المحلّية لحرمها، وعلى الرغم من ذلك انتشرت المونتانية في آسيا الصّغرى و حتى شمال إفريقيا. وقد اعتبر قديسو الكنيسة هذه البدعة خطراً على الكنيسة، وإن اتّشحت بالتقوى وتركيزها على ما تدعوه بالنبوّة و بعض المواهب.

نشأت المونتانية في قرية أردبان في فريجية في النصف الأخير من القرن الثاني و قد بدأ مونتانس، الذي كان كاهناً وثنيّاً قبل أن يصير مسيحيّاً، بادعاء النبوة سنة 172 على الأغلب، وكان يعلّم بالابتعاد عن الزّواج الثاني على أنّه زناً و بالأصوام الصارمة و بعدم الغفران للساقطين في خطايا كبيرة و احتقار الفنون و العلوم. لاتّسام هذه الهرطقة بالتعصّب و التشدّد فقد اجتذبت لمونتانس أتباعاً كثيرين، و كرّس لهذا العمل المواهبي عدّة أشخاص اشتهر من بينهم النبيّتان مكسيميللا و برسكيللا و النبيّان ألكيبياس و ثيوذوتس، و قد انتشرت هذه البدعة حتّى وصلت إلى ليون زمن إلفثروس أسقف روما (174-189) ولم يقبلها الأخوة هناك تجنّباً للشّقاق الكنسي و يُذكر أنّ المونتانية قَوِيَت كثيراً في أنقيرة، عاصمة غلاطية، و وصلت حتّى إنطاكية قبل عام 190، ممّا اضطُّر أسقفها سيرابيون (190-211 وهو التاسع بعد القدّيس بطرس الرسول) إلى توجيه رسالة إلى الإكليركيَّين كاريكسوس و بنطيوس تحتوي تواقيع عدّة أساقفة لحرم المونتانية. و في روما عُرفت المونتانية حوالي سنة 200 وجرت مناقشات مع أتباعها (بين بروكلوس المونتاني وغايوس أيّام الأسقف زيفيرينوس 198-217). كما يحصي قانون موراتوري (وهو أقدم لائحة بأسفار العهد الجديد القانونيّة، وضعه أحّدُ أساقفة روما قبل سنة 200) المونتانية بين الهرطقات و يرفض تعاليمها و كتاباتها.

المونتانية في كتابات الآباء

التاريخ الكنسي لأوسابيوس القيصري هو أقدم مصدر يتحدّث عن المونتانية. ينقل كاتبه عن أحد الآباء قوله بأنّ نبوّات النبيّة المونتانية مكسيميللا لم تتحقّق، حتّى بعد موتها بثلاثة عشر عاماً، و أنّ وجود شهداء لدى المونتانيين ليس بدليلٍ على صدقهم، فللهراطقة أيضاً شهداءهم. ويتّضح من هذا المصدر أنّ أحد الخلافات الأساسيّة بين الكنيسة و المونتانية في آسيا الصّغرى هو السؤال عمّا إذا كان النبي الحقيقي يتكلّم وهو في حالةٍ من الهذيان و الهياج النفسي، كما يتحدّث في موضع آخر من كتابه مستشهداً بكاتبٍ كنسي يدعى أبولونيوس، كتب في آسيا الصّغرى بعد موت مونتانس بأربعين عاماً، و هاجم الانحرافات الأخلاقية لدى القادة المونتانيين و يذكر أسماء عدّة آباء تصدّوا للمونتانية كتابةً مثل أبوليناريس كلاوديوس و سيرابيون أسقف إنطاكية و ميلتيانوس.

في كتاب "دحض الهرطقات" يأخذ هيبوليتس الرّوماني على المونتانيين تفضيلهم لأنبيائهم ووضعهم فوق المسيح والرّسل وكل عطيّة، وعدم فحصهم لتعاليمهم. و يشير في موضع آخر إلى عدم وجود اختلاف بين رأي المونتانيين و الرأي المستقيم في خصوص الخلق و المسيح، أمّا خطأهم فيكمن، برأيه، في ركونهم إلى أقوال أنبيائهم أكثر من ركونهم إلى الأناجيل وفرضهم أصواماً جديدةً مخالفةً للتّسليم.

في كتاب "خزانة الأدوية" للقدّيس أبيفانيوس القبرصي فصلٌ كاملٌ عن المونتانية استند فيه كاتبه إلى وثائق قديمة و قال بأنّ المونتانيين يقبلون الكتاب المقدّس بأكمله و قيامة الأموات و عقيدة الثّالوث، لكنّهم ينحرفون في تعليمهم عن المواهب. ويعرض أبيفانيوس كتب المونتانيين و الآيات الكتابية التي يستغلّونها و يوضح ردود الكنيسة عليها ويُبرز السؤال الأساسي حول مدى إمكانيّة الرّكون إلى إنسانٍ يتنبأ و هو فاقد الرّشد.

كان ترتليانوس، وهو من معلمي الكنيسة في القرن الثالث، مستقيم الرأي متّصفاً بالزّهد و التّقوى الشّديدة إلى حدّ التطرف، إلاّ أنّه انحرف في أوائل القرن الثالث إلى المونتانية وصارت تعاليمه تنحو نحوها (رغم أنّ البعض يعتبرها مختلفةً جدّاً عن المونتانية الأولى)، و قد اعتبر ترتليانوس أنّ للخلاص ثلاثة مراحل، يدشّن الرّوح القدس الزّمن الثّالث فيها، و هو الزّمن الّذي ينبغي أن تصل فيه الكنيسة إلى ذروة التّنظيم. و اعتبر أنّ لا حقّ للأساقفة في الحلّ و الرّبط، و عنى بذلك كاليستوس أسقف روما (217-222) على الأرجح. كما قال بأنّه ينتمي إلى "كنيسة الرّوح" لا إلى "كنيسة النفسانيّين" و بدا له أنّ الكنيسة تناست الإلهام النبوي. ولم يدرك أنّ بحثه عن هذا "الإلهام" قاده إلى خارج الكنيسة.

رسالة القديس جيروم إلى مارسيللا في 385 م تلقي الضوء أيضاً على معتقدات المونتانيين، فالقديس يرى أن وعد السيد بإرسال الروح القدس في إنجيل يوحنا تحقق في العنصرة و أن ادعاءات المونتانيين بأن مواهبهم تحقيق لهذا الوعد تناقض جذرياً تعاليم الرسل و خاصةً تعليمهم لنا بوجوب رفض النبوءات التي لا تتفق مع الكتب المقدسة على أنها بدع. يقول جيروم بأن المونتانيين شوهوا أيضاً العقائد الأخرى فثالوثهم هو ثالوث صابيليوس الذي يقول بشخص واحد في الثالوث يظهر بأشكالٍ ثلاثةٍ مختلفة في الكتاب المقدس. كما ينتقد القديس رفض المونتانيين للزواج الثاني و يقول أن الكنيسة لا تشجعه و لكنها لا تثقل على المؤمنين بمنعه إذ أن بولس يسمح به للأرامل في رسائله. يعارض جيروم كذلك تطرف أولئك بالأصوام فيقول أن الكنيسة تفرض الصوم الكبير لأهمية الفصح لكنها لا تجبر على الأصوام الأخرى. يلومهم جيروم أيضاً على وضع النبوة فوق الأسقفية و الخدمة و التوبة و العمل الصالح و يتهمهم بالتطرف في إدانة الآخرين في كل مجال. يُغني القديس نفسه عن التكلم مطولاً لوثوقه بأن فهم مارسيللا للكتب المقدسة كافٍ لكشف سخافة تعاليم المواهبيين الأخرى.

لقد خرّبت المونتانية الكنيسة بالفعل، و بعملها هذا أنكرت عطايا الرّوح. إنّ كنيسة الرّوح القدس هي، خلافاً لما كان يعتقده ترتليانوس، جماعة بشريّة تعيش بنعمة الرّوح القدس، فهي جسمٌ مواهبيٌّ لأنّها تحيا و تفعل بالرّوح و لأنّها مكان عمله، يسكن فيها وتعيش هي فيه، حتّى اليوم. فيها الإنسان يقوم و يتعثر و يقوم بالتوبة ثانيةً حتى يبلغ القداسة، دون إدانة الآخرين و الظهور و ابتغاء التقوى الكاذبة.

يقول القدّيس إيريناوس الليوني ( ؟-202 ): "حيث تكون الكنيسة يكون روح الله، و حيث يكون روح الله تكون الكنيسة و يكون ملء النعمة". ألسنا نولد بالرّوح القدس في المعموديّة، ألسنا ننال موهبة الرّوح القدس في الميرون؟ ألسنا ننمو في المسيح بالأفخارستيا الّتي ننال فيها المسيح جسداً ودماً؟ و السؤال هو: هل هذه العطايا نسبيّة، وقتيّة، أم مطلقة و استمراريّة؟ ألا تكذّب المواهبية هذه العطايا و تهملها على حساب إبراز أضاليلها.

الله يزرع مواهبه في الجميع و يبقى على هؤلاء أن يعملوا بما فيه خير الكنيسة وبنيانها و بحسب حاجة الكنيسة مفروزين لذلك من الرّوح القدس العامل فيها و من خلالها، و لا تكفي لذلك رغبتهم الشّخصية. هناك مواهب كانت الكنيسة بحاجةٍ إليها حينها، زالت مع زوال الحاجة إليها، وما يدعو إليه الكاريزماتيك هو إعادة إحياء لهذه المواهب رغم انعدام سبب وجودها و على طريقتهم الخاصّة. المواهبية تجعل من الخوارق محوراً للإيمان على حساب النعمة.

مظاهر هذه البدع و أخطاؤها لاهوتياً

يقول اللاهوتي أوليفييه كليمان : "تنحو الكاريزماتية مناحٍ خطرة، إذ تبرّر غالباً بعض الحوادث التي قد ترتبط بالمجال النفسي أكثر ممّا ترتبط بالمجال الرّوحي الصرف... و يلاحظ أيضاً ، في تلك الحركة، اندفاع نحو المثير و لجوءٌ إلى التهرّب من الواقع التاريخي، و يحدث أحياناً أن يجعل أتباع هذه الحركة التركيز على الروح على حساب الصليب وينسوا كلّياً سرّ المصلوب القائم من بين الأموات." و غالباً ما تسعى هذه الفرق متجمّعةً حول قادتها إلى التكوّن على هامش الكنيسة و أحياناً "تسعى لصدع وحدتها". يتابع كليمان بالقول: "لم تعتقد الكنيسة الأرثوذوكسية يوماً أنّ مواهب الرّوح قد شحّت بانتهاء العصر الرّسولي، لأنّ الكنيسة هي رسولية باستمرار... تشاهد ربّها حيّاً و تتقبّل منه هبات الرّوح". لقد ظهر حاملو مواهب النّبوّة و الشّفاء و تمييز الأرواح (و هو علامة الأبوّة الرّوحية) من جيلٍ إلى جيل في كنيستنا الأرثوذوكسية، نسمّي منهم الشّيخ سلوان الآثوسي و الشّيخ بائيسيوس الآثوسي و صفروني سخاروف و سيرافيم ساروفسكي و يوحنا كرونستادت و غيرهم، و جميعهم عاشوا في أيّامنا هذه. لقد عاش كثيرون مواهب الرّوح بالحقيقة، فرسّاموا الأيقونات نالوا مواهب الرّوح و خدمة الحكّام السّياسيّين في مجتمع ديموقراطي عادل موهبة من الرّوح القدس و خدمة الطّبيب الماقت الفضّة و حياة السّكاف التّقي كلّها أمثلة نجدها تملأ تقليدنا و تبرهن على حياة هؤلاء في العنصرة الحقّة "لأنّ كلّ عطيةٍ صالحة و كلّ موهبة كاملة هي من فوق من لدن أبي الأنوار" (يعقوب 1/17).

كنيستنا تؤكّد دائماً على التّوبة و التّواضع و اليقظة الرّافضة للمثير و المفضّلة "للألم اليومي الصّبور في عيش سرّ الصّليب و القيامة، على الإثارات و العواطف الكبيرة" و قد أعطى هذا التّقليد الذي يعود إلى بولس الرّسول الأوّلية للرّأفة و محبّة الأعداء "و قد شدّد التّقليد على الخبرة اللّيتورجية كتجاوز للمحدودية و الإنكماشات الفردية، للوصول إلى السّلام... حيث لم يعد هم الإنسان ذاته بل يُحمل في نهر التّسبيح الكنسي النوراني. من هنا انزعاج المؤمنين الأرثوذكسيّين عادةً من الصّلوات المرتجلة (العفوية) و مظاهر التّعبّد العجيبة المثيرة" بحسب كليمان.

المسيحية ترفض الهروب من التّاريخ، إذ ترفض الفصل بين دينٍ و دنيا و بين مسيحي مكرَّس لله بموهبةٍ كهنوتية و آخر غير مكرَّس. كلّنا كهنة لله ملوكيّين مسؤولون عن خلاصنا كجسد واحد و الفارق هو في مكانة الخدمة لا في الرّتبة.

عجائب الرّب يسوع

إنّ الخطوة الأولى في الحياة المسيحيّة تكمن في نبذ الذّات و الثّقة بيسوع (يو 16/23). و هذه الثّقة لا تأتي أبداً من المعجزات بدليل كلام السيّد نفسه :"ليس كلّ من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السّموات. بل الّذي يفعل إرادة أبي الّذي في السّموات.كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أليس باسمك تنبّأنا و باسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوّاتٍ كثيرة، فحينئذٍ أصرّح لهم: إنّي لم أعرفكم قط، اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم" (متى 7/21-23). و يقول يوحنّا في إنجيله: "آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات الّتي صنع، لكنّ يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنّه كان يعرف الجميع. ولأنّه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحدٌ عن الإنسان لأنّه علِم ما كان في الإنسان" (يو 3/23-25). إذ كان كثيرون يؤمنون بالأعاجيب و يرونها لم يكن إيمانهم بيسوع حقيقيّاً، إذ لم يتحلّوا بالتواضع و لم يجاهدوا سعياً وراء التشبّه بالمسيح و حفظ وصاياه بل "مع أنّه كان قد صنع أمامهم آياتٍ هذا عددها لم يؤمنوا به" (يو 12/37).

لقد دوّن الإنجيليّون الأربعة عدداً معيّناً من المعجزات الّتي قام بها المسيح، و هذا يعني أنّ المعجزات الّتي اختارها التّلاميذ في الأناجيل لها مغزىً و محتوىً لاهوتيّاً و ليست مجرّد آيات خارقة حتّى عبارات يسوع نفسه، إسكاته للشّياطين، و إسكاته للّذين طلبوا الشّفاء، كلّها لها مغزىً يوجب علينا أن نتوقّف عنده قليلاً.

عندما نتحدّث عن عصر يسوع، نتحدّث عن عصرٍ رُبط فيه الشّر و الخطيئة بالمرض، و كما أنّ الخطيئة، من حيث هي شذوذٌ عن السّيرة القويمة، تحدٍّ لله. اعتُبر المرض، بما أنّه شذوذٌ عن الوضع الطّبيعي، تحدٍّ لله أيضاً، و لهذا رأى الجموع في تصدّي يسوع للمرض تصدٍّ للخطيئة، و قد عارض يسوع هذه النّظرة عند شفائه للأعمى، إذ سأله تلاميذه "من خطئ، أهذا أم والداه حتّى وُلد أعمى؟" و كان جواب يسوع "لا هذا خطئ ولا والداه". كما كانت عجائب يسوع عُرضةً للتأويلات و لهذا نقول بأنّنا دون إيمانٍ حقيقي لا نستطيع الحكم على صحّة الأعجوبة بشكل صحيح، فهناك من آمن بالمسيح و بقدرته على منح الشّفاء (مر 1/40 و 2/5)، و منهم من رأى في عجائبه أعمالاً شيطانية (مر 3/22-30)، ومنهم من آمن بالآيات دون الإيمان بالمسيح نفسه (يو 12 /37). هذا يعيدنا إلى الفكرة الّتي تقول أنّ الإيمان و السّلوك المسيحي الصّحيح يأتيان أوّلاً.

في رواية شفاء الأبرص نرى أن الإنسان و إن نال الشّفاء دون الإيمان بالمسيح فهو ميتٌ فانٍ، و الله يشاء خلاص الجميع لا البعض "يريد أن يخلُص جميع النّاس و إلى معرفة الحق يقبلون"(1تيم 2/4). و الشّفاء يكون شفاءً من عبوديّة الخطيئة لا من الأمراض الجسديّة فقط، فإيمان الإنسان يحدّد خلاصه أم لا و ليس الأعاجيب، إذ نقرأ في لو 17/19 أنّ الأبرص الوحيد الّذي عاد ليشكر يسوع نال الخلاص الحقيقي إذ قال له يسوع (بعد شفائه جسديّاً): "اذهب إيمانك خلّصك". الخلاص هنا لم يكن شفاءً جسديّاً بل غفراناً.

عندما طلب الفرّيسيون من يسوع معجزةً مجرِّبين إيّاه أوّلاً، و قاصدين عملاً خارقاً أجابهم يسوع قائلاً: "لن يُعطى هذا الجيل سوى آية يونان النبي، فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيّامٍ و ثلاث ليالٍ، كذلك يبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيّامٍ و ثلاث ليالٍ" (متى 12/40). و بهذا لا يطلب يسوع منهم الإيمان بالأعاجيب التي لا تخلّص، بل بسرّ قيامته من بين الأموات، فهذه هي الآية التي تكون لهذا الجيل (لو 11/30) :"فكما أنّ يونان كان آيةً لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان آيةً لهذا الجيل". و إذا عُدنا إلى سفر يونان نجد أنّ دعوته كانت إلى الإيمان و التوبة و تبشير الأمم و لم يكن هذا السّفر (وهو رواية لاهوتية لا تاريخية) سوى صورة عن المسيح الآتي لخلاص العالم.

تأتي المعجزات كتحقيقٍ لنبوّات العهد القديم عن المسيح (أش 26/19 و 35/5) مثلما تأتي رواية تكثير الخبز مثلاً كرواية لاهوتية، بالإضافة إلى كونها معجزة ، ففي الرّواية الأولى يستخدم مرقس الرّقمين 5 و 12 للإشارة إلى إسرائيل اليهود (مر 6/30-44) و في الرّواية الثّانية في الجليل يستخدم الرّقمين 4 و 7 للإشارة إلى الكمال و الشّمولية أي إلى إسرائيل الأمم (مر 8/1-10). بنفس النهج يشير المسيح إلى معجزة إعطاء المن لإطعام شعب إسرائيل، فإسرائيل لم يؤمنوا بالله كما يجب بل كانوا يتذمّرون و يطلبون العجائب ، فيقول لليهود: "آباؤكم أكلوا المن في البرّية و ماتوا، إنّ الخبز النّازل من السّماء هو الذي يأكل منه الإنسان و لا يموت" (يو 6/49-50). و قد أعاد المسيح هذه الفكرة في حديثه عند بئر يعقوب، فالغذاء الحقيقي هو جسد المسيح و دمه الحقيقيين، و هو ما تمارسه الكنيسة منذ عشرين قرناً إلى اليوم. كلّ خلاص و كلّ غذاء للرّوح ينبع من كأس المسيح ، من جسده و دمه. هذه هي الذّبيحة الحقيقية و المعجزة الحقيقية التي تستوجب الإيمان و تغذّيه لأنّ جسد المسيح و دمه ليسا مجرّد رمزين لذبيحة المسيح فيسوع يؤكد و يقول: "جسدي مأكلٌ حقيقي و دمي مشربٌ حقيقي" (يو 6/55) و بهما فقط يتحد المسيح بطبيعتنا إلى نهاية الدّهور (متى 28 /20).

إنّ إيماننا بالمسيح ككائن خارق و صانع للعجائب لا يُدخلنا إلى عمق أسرار الكنيسة و جوهرها لأنّنا ببساطة لا نطلب سوى هذه الخوارق وهذا مسيحياً ليس بإيمان، و يسوع نفسه رفض مثل هذا الارتباط به (يو 3/23-25). الإيمان و ما يتبعه من تغيير للذّات و التّحلّي بصفات يسوع و التّمثّل به هو ما يطلبه الرّب منّا "لأنّنا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدّها لكي نسلك فيها" (أفس 2/10) "فكونوا متمثّلين بالله كأولادٍ أحبّاء. و اسلكوا في المحبّة كما أحبّنا المسيح أيضاً و أسلم نفسه لأجلنا" (أفس 5/1-2). و أذكر هنا قول يوحنّا الإنجيلي مؤكّداً أنّ الإيمان هو شرطٌ أوّلي: "و أتى يسوع أمام تلاميذه بآياتٍ أخرى كثيرة لم تُكتب في هذا الكتاب، و إنّما كُتبت هذه لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله و لتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه" (يو 20/30-31). فلنصلِّ أوّلاً أن يعين الرّب إيماننا وحسب.

المسيح شفى المُقعد فعليّاً عندما قال له :"مغفورةٌ لك خطاياك"، بينما جاء الشّفاء الزّمني الوقتي ردّاً على فكر الكتبة و الفرّيسيين تجاهه. لم يكن المسيح يعمل المعجزات ليُبرهن على أنّه المسيح بل لأنّ المرضى كانوا يُلحون في طلب الشّفاء منه بعد الإيمان به، و كان يسوع يعطف عليهم كما عطف على الكنعانية إذ ألحّت بتواضع شديد أمامه (متّى 15/28) و نرى عطفه عندما بكى لعازر (يو 11/35) و أقام ابن الأرملة (لوقا 7/11-16). كان يسوع يتدخّل عطفاً و حزناً على إيمان الشّعب الذي كان بمجمله يطلب الآيات قبل ملكوت الله.

إذا عدنا إلى تطويبات المسيح نجده يطوّب أنقياء القلوب و صانعي السّلام و الودعاء، لا صانعي العجائب. بل يحذرنا السيد أنه في آخر الأزمنة "سيقوم مسحاء كذبة و أنبياء كذبة و يعطون آيات و عجائب لكي يضلوا لو أمكن المختارين أيضاً" (مر 13/23). لقد كان شفاء يسوع للرّوح أهمّ و أعظم بما لا يقاس من شفائه للجسد الفاني: "خير لك أن تدخل الحياة و أنت أعرج من أن تكون لك رجلان و تُطرح في النّار التي لا تُطفأ" (مر 9/44). لهذا ندعو إلى الرّب و نرجو الخلاص الأبدي لا الوقتي و الحياة في نوره الأزلي بعد زوالنا من هذه الفانية. هذا هو الخلاص.

مثالٌ إنجيليٌ آخر نجده في مثل الغني و لعازر، إذ نجد الغني الهالك يطلب من الرّب قائلاً: "أسألك إذاً يا أبتِ أن ترسله (لعازر) إلى بيت أبي لأنّ لي خمسة أخوة. حتّى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا "فقال له إبراهيم أنّ عندهم موسى و الأنبياء ليسمعوا منهم فقال الغني: "لا يا أبي إبراهيم بل إذا مضى إليهم واحدٌ من الأموات يتوبون"، فقال له إبراهيم: "إن كانوا لا يسمعون من موسى و الأنبياء و لا إن قام واحدٌ من الأموات يصدّقون" (لو 16/27-31). المعجزات لا تؤسس للحياة الصالحة و النعمة و الإيمان بحسب ربنا و لا أحسبها صدفةً أنّ أوّل من طلب معجزةً من المسيح هو الشّيطان حين جرّبه في البرّية (متّى 4/1-11و مر 1/12-13و لو 4/1-14) و آخر من طلب منه معجزةً هو اليهود السّاخرين منه و هو معلّقٌ على الصّليب حين طلبوا منه النّزول عن الصّليب: "خلّص غيره و لا يقدر أن يخلّص نفسه... فلينزل الآن عن الصّليب فنؤمن به" (متّى 27/42). فلا تُدخلنا يا رب في هكذا تجربة بل نجنا من المجرّب كلّ حين.

النّبوّة و اللّغات في التّسليم المقدّس

حين نتكلّم عن النّبوّة في الكنيسة، لا نتكلّم عن تنبّؤات فارغة و مجرّد رؤىً مستقبلية. النّبوّة في الكنيسة كما يُعرّفها بولس الرّسول: "وعظٌ و تعليمٌ و بنيانٌ" (1كور14/3) و هذا واضحٌ في كنيستنا بما يُدعى الأبوّة الرّوحية فالأب الرّوحي هو الذي يتّخذه الإنسان مرشداً و أباً معرّفاً و هو الذي يمنحه الله النّبوّة (الكلام) ليعظ و يعلّم و يبني المؤمن و يُرشده، و يمنحه الله موهبة التّمييز فيكشف عن خفايا قلب المؤمن (2كور14/25). أمّا اللّغات ، فقد تحدّث عنها بولس قائلاً أنّها ليست آيةً للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1كور14/22) بينما النّبوّة هي للمؤمنين. و يوصي بولس المتكلّمين باللّغات بالتّكلّم "اثنان أو ثلاثة على الأكثر، واحداً واحداً، و ليكن فيكم من يترجم، فإن لم يكن من يترجم، فليصمت المتكلّم بلغات... أمّا الأنبياء فليتكلّم منهم اثنان أو ثلاثة و ليحكم الآخرون (لئلاّ يهرطقوا)... إنّ أرواح الأنبياء خاضعةٌ للأنبياء" (1كور14/27-33) و الهدف من كلّ هذا هو البنيان و الفائدة للكنيسة (1كور14/26)، لذلك فضّل بولس النّبوّة (1كور14/2). يعطي الرّب المواهب بحسب حاجة الكنيسة، و اليوم و قد تُرجمت البشارة إلى كافة لغات العالم فلا حاجة إلى موهبة اللّغات.

نتعلّم من سفر أعمال الرّسل أنّ الرّوح القدس حين حلّ على الرّسل يوم العنصرة تكلّموا بلغاتٍ يفهمها من كان حولهم من الأمم. لم يكن الموضوع سحريّاً فالرّوح القدس أعطاهم موهبة تبشير الأمم بلغاتهم لتصلهم الكلمة و لبنيان جسد المسيح (أفس 4/12) أي الكنيسة، و من أجل الخير العام (1كور 12/7). أمّا مدّعو تملّك موهبة اللّغات فيتكلّمون بما لا يعلِّم و لا يبني، و اللّغة التي يتكلّمون بها هي هلوساتٌ فارغة لا معنى لها و لا هدف.

إنّ بنيان جسد المسيح يكون بالتّعليم و تشديد النّاس و تثبيتهم في الإيمان. لهذا يوصينا الرّسول يوحنّا في (1يو 4/1) باختبار الأرواح، كما أوصانا بولس الرّسول أيضاً، و الذي يعدّ التّمييز بين الأرواح ثمرة النّعمة الإلهية (1كور12 /10)، و هي أساسية لاستبعاد كلّ نبي كذّاب يحرّكه روح المسيح الدّجال (1يو4/3) و (1كور 12/11)، و لنتذكّر هنا وصية بولس الهامّة: "ليكن كلّ شيءٍ بأدبٍ و نظامٍ"(1كور 14/40). يشدّد بولس على النّظام و التّرتيب و اختبار كلام النّبي و تعليمه فإذا كان نبيّاً كاذباً يعني ذلك أنّه هرطوقي يبتدع ما لا يوافق تسليم وعادة الكنيسة (1كور 11/16). بولس الرّسول فضّل موهبة النّبوّة على موهبة اللّغات لأنّ من لا يفهم اللّغة "يظنّ أنّكم جننتم" (1كور 14/23). فضّل بولس النّبوة لأنّها تبني و اعتبرها آيةً للمؤمنين، بينما اعتبر اللّغات آيةً لغير المؤمنين (أي من لم يُبشّروا بعد).

لا علاقة لهذه الأفعال بعقيدتنا و إيماننا، و لا هي تدفع إلى الإيمان الحقيقي الّذي يرفع المحبّة فوق كلّ المواهب: "اطمحوا إلى المواهب العظمى... لو تكلّمت بلغات النّاس و الملائكة، و لم تكن لي المحبّة فما أنا إلاّ نحاسٌ يطن أو صنجٌ يرن، و لو كانت لي موهبة النّبوّة و كنت عالماً بجميع الأسرار و بالمعرفة كلّها، و لو كان لي الإيمان الكامل فأنقل الجبال و لم تكن لي المحبّة فما أنا بشيء، و لو فرّقت جميع أموالي لإطعام المساكين، و لو سلّمت جسدي للحرق و لم تكن لي المحبّة، فما يجديني ذلك نفعاً... المحبّة تصبر وتخدم، لا تحسد و لا تتباهى و لا تنتفخ بالكبرياء و لا تبالي بالسّوء... المحبّة لا تسقط أبداً، أمّا النّبوءات فستُبطل و الألسنة ينتهي أمرها" (1كور13/1-10). صحيحٌ أنّ الرّسول يقول في (1تسا5/19) "لا تُطفئوا الرّوح" إلاّ أنّه في (2تسا2/2) يحذّر قائلاً: "لا ترتاعوا لا بروحٍ و لا بكلمةٍ و لا برسالةٍ يُزعم أنّها منّا تقول أنّ يوم الرّب قد حضر، لا يخدعكم أحدٌ بشكلٍ من الأشكال" لأنّ التّمييز و التّدقيق في مصدر الموهبة أهمّ شيءٍ يتوجّب فعله قبل قبولها. "لا تصدّقوا كلّ روحٍ، بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله لأنّ أنبياء كذبةً كثيرين قد خرجوا إلى العالم" (1يو4/1). أمّا نحن فننال مواهب الرّوح لنكون شهوداً للمسيح حتّى أقاصي الأرض (أع1/8).

نسأل الله بصدق في الآلام و التجارب التي تمتحن إيماننا ليرفع عنا الكأس و يمنحنا الشفاء و أحياناً كثيرة ييأس الإنسان و يختار الهروب من الصليب. بولس مرّ بهكذا تجربة و طلب الشفاء لعلّة في جسده و لكنه فهم أن في علّته حكمة و خلاص و رضي بحملها لمجد الله: "ولئلا ارتفع بفرط الاعلانات أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع. من جهة هذا تضرعت الى الرب ثلاث مرات أن يفارقني. فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور افتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة المسيح" (2كور 4:7-9). محبتنا لله ينبغي ألا تكون مشروطةً بتحقيق ما نشاء ففي كل صليبٍ حكمة و خلاص لحامله.

في عهد خلفاء الرّسل من القدّيسين نجد أنّ مواهب الرّوح من أشفيةٍ و لغات لا تُمنح إلاّ إلى اللاّمعين منهم و للّذين قطعوا شوطاً عظيماً في القداسة و الفضيلة و في اقتناء ثمر الرّوح من محبة و فرح و سلام و طول اناة و لطف و صلاح و ايمان و وداعة و تعفف (غلاطية 5/22-23). و هذه لا تأتي بالإيمان وحده كما يدّعي الهراطقة بل بالجهاد: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الاهواء والشهوات" (غلاطية 5/24). العجائب و الخوارق و الأشفية ليست من ثمر الروح ولا هي تنفيذٌ لوصايا الرب ولا هي دلائل على القداسة و "من ثمارهم تعرفونهم" (متّى 7/20).

عرضٌ لبعض أقوال القدّيسين

القدّيس أغناطيوس المتّشح بالله أسقف إنطاكية و خليفة بطرس الثاّلث عليها استشهد عام 107 في 20 كانون الأوّل، وهو اليوم الذي تعيّد له الكنيسة فيه. يؤكّد القدّيس أغناطيوس على الإيمان الكامل و المحبّة الكاملة، الّذَين يوحّداننا بالله مرافقين بالفضائل كلّها، إذ يقول: "إن كان لكم إيمانٌ كاملٌ و محبّةٌ كاملةٌ فلن يخدعكم أحدٌ" (أفسسXIV/1). و ينبّهنا إلى وجود أناسٍ يتكلّمون باسم الرّب و لكنّهم يعملون ما لا يُرضيه فيقول: "هناك أناسٌ يتلفّظون باسم الله رياءً و خداعاً و يقومون بأعمالٍ لا ترضيه. يجب أن تبتعدوا عن هؤلاء" (أفسسVII /1). و نبّه أغناطيوس في كلّ رسائله على وحدة الكنيسة بأسقفها: "عليكم أن تكونوا برأيٍ واحدٍ مع أسقفكم" (أفسسIX /1). و لهذا فكلّ عملٍ يجري خارج ترتيب الكنيسة هو عملٌ باطلٌ "لأنّ الحياة الحقيقية هي أن نوجد في المسيح، لا قيمة لما هو خارج المسيح" (أفسس XI/1و2). و الموهبة في مفهوم القدّيس أغناطيوس هي معرفة الله: "لماذا لا نحظى بمعرفة الله أي بيسوع المسيح فنصبح كلّنا حكماء ؟ لماذا نهمل الموهبة التي أعطانا إيّاها السّيد و نسرع كالحمقى إلى الهلاك ؟"(أفسس XVII/2). و يبتعد القدّيس هارباً من كلّ مديحٍ و إغراءٍ (بعكس ما نراه في المواهبيين): "المديح المعسول سوطٌ يلسـعني" (تراليانIX/1). و يقول منبّهاً: "أرجوكم لا أنا بل محبّة المسيح، أن تستعملوا الغذاء المسيحي و تبتعدوا عن الأعشاب الغريبة أي الهرطقات. لكي يحظى الهراطقة بثقة النّاس يمزجون السّم بالخمرة و العسل… احذروا من هم على هذه الشّاكلة و ذلك بتجنّبكم الكبرياء و باتّحادكم مع ربّنا يسوع المسيح و مع الأسقف و مع تعاليم الرّسل، من كان داخل المذبح فهو نقيٌ و من عمل خارج إرادة الأسقف و الشمّاس فهو قذر الوجدان" (تراليان VI/1و2 و VII/1و2).

أمّا القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم (القرن الرّابع) فيقول تعليقاً على (1كور 12 و 13): "مواهب الرّب ممنوحة لجميع النّاس فلا يتعلّق الأمر هنا بتلك النّعم أو تلك الممنوحة للبعض و المرفوضة للبعض الآخر. الأمر يتعلّق بنعمةٍ جامعةٍ، يدعو جميع النّاس إليها ليشاركوا فيها، إنّها المحبّة. و قبل امتداحها يقابل بها المواهب الأخرى بتبيانه أنّهنّ لا شيء بدون المحبّة. هذه موهبة روحية تقود إلى جميع المواهب الأخرى. يمتدح موهبة اللّغات ليُخفضها إلى الأرض. و يضع بولس موهبة اللّغات في آخر درجات السلّم" (الموعظة 3/32 على 1كور). و يتحدّث القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم عن الإيمان كأصل المواهب الرّوحية الأخرى، أي إيمان بطرس ذاته، و هو الإيمان بأنّ يسوع هو ابن الله الحي و العمل على أساس هذا الإيمان، فيقول: "و يضع في الأوّل الإيمان، أمّ و ينبوع المواهب الرّوحية الأخرى، لا شيء يذهل في الكلام. إنّ المواهب الرّوحية ليست مفيدةً جدّاً بدون المحبّة لأنّ في الحياة مواهب روحية ليست ذات أهميّة كبرى، كثيرٌ من الناّس نالوا مواهب عوقبوا كأرذال، الدّليل هو الّذين باسم المسيح كانوا يتنبّئون و يطردون الشّياطين و يُجرون عجائب كثيرة كيهوذا. أمّا المؤمنون الّذين عاشوا حياةً طاهرةً فقد خلُصوا بها" (2/4من ذات الموعظة). و يذكّر القديس بأنّ يهوذا أخذ السّلطان كبقيّة الرّسل (ضدّ يهوذا 1/3و2/3)، إلاّ أنّ المعجزات لم تنجّه لأنّه خائن (شرح الأعمال 2/3). في تعليقه على كلام بولس الرسول يقول: "بولس يقول أنّ الإيمان و العلم و موهبة النّبوّة و موهبة اللّغات و موهبة الاستنارة و موهبة الشّفاء لا تنفع بشيءٍ كثير بدون المحبّة. و يعلنها لنا بكلّ جمالها و طهارتها" (نفس الموعظة33/5). "ليست العجائب ثمار الفضيلة الشّخصية" (27 على 2كور) فالعجائب منحةٌ إلهيةٌ لا ينالها الإنسان بجهده: "لا شيء أطهر من الفضيلة و لا شيء أنجس من الخطيئة، لأنّ الفضيلة أكثر لمعاناً من الشّمس" لأنّ الفضيلة يكون "فيها الرّوح القدس" (نفس الموعظة). يعلمنا الكتاب أن عملنا و حفظنا لوصايا الرب برهان على طاعتنا له أما افتعال العجائب فهو من الله و ليس ثمرة أفعالنا: "إنّ العمل هو نتيجة إرادتنا الذّاتية، أمّا عجيبةٌ ما فهي موهبة النّعمة الإلهية. عملٌ ما هو أثر عمل الإنسان ، عجيبةٌ ما هي أثر السّخاء الإلهي، مبدأ عملٍ ما هو إرادتنا الذّاتية، مبدأ عجيبةٍ ما هو نعمة الله… يتألّف العمل من عنصرين، من نشاطنا و النّعمة الإلهيّة. عجيبةٌ ما لا تُري إلاّ النّعمة الإلهية و لا تتطلّب تعاوننا. أن تكون نبيلاً، حكيماً، متواضعاً، أن تلجم غضبك، أن تحارب أهواءك، أن تمارس فضيلتك فإنّما هذا عملٌ. إنّما هو عملٌ شغلٌ (أي يتطلّب نعمةً إلهيّةً و جهداً إنسانياً). العجيبة، طرد الشّياطين، شفاء العميان، تطهير البرص، شفاء المفلوجين، إقامة الموتى و سوى ذلك. أترى الفرق بين الأعمال و العجائب، السّلوك الحكيم و المعجزات، نشاطنا و نعمة الله؟" (2/2 في شرح الأعمال). يُفرّق الذّهبي الفم بوضوح بين الأفعال التي يشترك فيها عملنا مع النّعمة لنتمّم وصايا الرّب، و ما يعطيه الرّب من آيات يؤيّد بها كلمته، و تكون هذه من عمل الرّب لا نحن: "العمل، السّلوك الحكيم هو ثمرة أشغالنا وعرقنا… هذا يقود إلى السّماء، بينما لا تقود إليها العجائب و المعجزات و هي عاجزة عن تخليص فاعلها (متّى 7/22). العجائب لا تخلّص إلاّ مصحوبةً بسيرةٍ كاملةٍ، بحياةٍ طاهرةٍ بلا دنس (متّى 25/31-46)… دامت العجائب حيناً و مضت…" (2/3 في شرح الأعمال). في حين أكّد المسيح أنّ فاعلي الخير و الفضيلة سيخلصون ، أكّد أنّ كثيرين من صانعي العجائب "باسمه" سيهلكون في العذاب الأبدي ، لكن كيف يكون ذلك؟ "المؤمنون الحقيقيون ليسوا بحاجةٍ للعجائب فالإيمان العابر يسقط" (الموعظة24 في شرح إنجيل يوحنا)، أمّا الوثنيون و غير المؤمنين كانوا بحاجةٍ للآيات: "بالنّسبة للمؤمن المعمودية هي الدّليل على نيل الرّوح القدس، بالنّسبة لغيره ما من دليلٍ سوى الآيات ليؤمن بفاعلية المعمودية "(الموعظة29/3 على 1كور). كما يؤكّد بولس تفوّق المحبّة بقوله "أمّا الآن فيثبت الإيمان و الرّجاء و المحبّة، هذه الثّلاثة و لكن أعظمهنّ المحبّة" (1كور13/13)، يؤكّد الذّهبي الفم أيضاً بأنّ "المحبّة أعظم الفضائل" (في شرح الأعمال 40/2). و يعزز هذا بقوله "إن كنتم تؤمنون كما يجب، و تحبّون يسوع كما هو حقٌ أن تحبّوه، فلستم في حاجةٍ إلى العجائب، العجائب للكفّار" (الموعظة 24/1 في شرح يوحنّا). "المحبّة جذر جميع أنواع الخيرات" (72/3 في شرح يوحنّا). بالفعل لا نجد آيةً إنجيليةً واحدةً توصينا بصنع المعجزات: "العجائب أعطاها لغير المستحقّين لمصلحة البشارة... ولا تتصوّرنّ أنّنا أقلّ سعادةً لأنّنا لا نفعل أبداً عجائب... لا تنفعنا آنذاك إن كنّا عشنا بصورة سيّئة. لسنا مديونين لله لأنّنا لم نفعل أعمالاً خارقةً و عجائبية، ولكن الله نفسه يصير مديوناً لنا للأعمال الصّالحة التي فعلناها" (24/2 من شرح متّى). أوصانا بولس أن نجدّ في طلب المحبّة و النّبوّة لنبني و نعظ و نعزّي المؤمنين لنبني جسد المسيح فإن "الإيمان يكفي بالاستقلال عن العجائب، أكرمنا الله بذلك، لذلك لم يعد من آياتٍ اليوم" (1/4 على العنصرة).

القدّيس الكبير يوحنّا السينائي (أو السّلمي) مؤلّف كتاب "السلّم إلى الله" يقول: "لن نُلام يا أخوة عند خروجنا من الدّنيا على عدم اجتراحنا للعجائب أو عن عدم تكلّمنا باللاّهوت أو عدم معاينتنا للرؤى، لكنّنا سنؤدّي حساباً لله بالتّأكيد على أنّنا لم نبكِ دون انقطاعٍ" (7/70). الحياة في المسيح تتسمّ بالإتضاع أولاً و لا خلاص دونه: "لقد وجد الكثيرون الخلاص خلوّاً من نبوءاتٍ و استناراتٍ و آياتٍ و عجائب، و لكن لن يدخل أحدٌ خدر العرس بدون الاتّضاع. لأنّ هذا حفظ أولئك و بدونه صارت تلك سبباً لهلاك العادمي الفطـنة" (25/52). و يقول أيضاً: "من يسأل الله المواهب لقاء أتعابه يضع أساساً غير سليم. أمّا من يحسب ذاته غريماً بالأتعاب فسوف ينال إلى حين غرّة ثروةً لا ينتظرها" (22/33). الموهبة لا تأتي بإرادة إنسان و السعي وراءها فيه كبرياء ينمو عن شعور كاذب بالإستحقاق. يروي القديس هذه القصة: "أحّد أصحاب موهبة المعاينة الرّوحيّة روى لي ما عاين فقال: كنت جالساً مرّةً في مجمع فوافاني شيطانا العُجب و الكبرياء و قعدا بجانبيَّ، ثمّ لكز أحدهما جانبي الأيمن بإصبع العُجب موعزاً إليّ أن أتحدّث عن رؤيا رأيتها أو عملٍ عملته في البرّية. و لكن حالما ردعته قائلاً: ليرتد إلى الوراء و يخز الذين يريدون لي الشّر (مز69/3). همس في أذني الجالس عن يساري قائلاً: نعمّا نعمّا ما أحسن ما فعلته! لقد صرت عظيماً إذ تغلّبت على أمي العادمة الحياء (أي العُجب بالنّفس). فأجبته ببقيّة القول: ليرجع في الحال خازين القائلون لي نعمّا نعمّا و ما أحسن ما فعلت. و لمّا سألته كيف يكون العُجب أمّ الكبرياء أجابني: إنّ المدائح ترفع النّفس و تنفخها و إذا تشامخت النّفس أخذتها الكبرياء و أصعدتها إلى السّماء ثمّ أحدرتها إلى الهاوية." نخطأ إذ نطلب المواهب مقابل إيماننا أو في صلاتنا فهذه علامة الكبرياء في الإنسان. لنسعى سعي القدّيسين إلى ما هو أعظم من كلّ المواهب، ألا و هو السلوك مع الله باتّضاعٍ، و هو الأمر الذي يوصلنا إلى ملء قامة المسيح و إلى القداسة: "تعلّموا منّي لأنّي وديعٌ و متواضع القلب فتجدوا راحةً لنفوسكم" (متّى11/29).

يتحدّى المواهبيون الوصيّة القائلة: "لا تجرّب الرّب إلهك" و في كلّ مرّةٍ يحدّدون بأنفسهم مكان و زمان الشّفاء الذي يريدون إجرائه، بحضور الإعلام و الدّعاية، واضعين أنفسهم محلّ مشيئة الرّب. هل عمل الرّسل أو أيٌّ من القديسين شيئاً كهذا ؟ إنّ هذا يذكّرنا بمعابد و مسارح الوثنيّين. و إذا كان الشّيطان أيضاً قادراً على عمل المعجزات ظاهراً للنّاس كملاك نور (2كور11/14) و خدّامه قادرين على إعطاء آياتٍ عظيمةً و عجائب حتّى يُضلّوا لو أمكن المختارين أيضاً (متّى24/24) فعلى أي أساسٍ نقيم التّفريق ؟ أليس على أساس المضمون اللاّهوتي و الهدف المتخفّي وراء ذلك العمل؟ في ذلك يقول السلّمي: "متى احتلّ الشّيطان موضعاً في قلب المنقادين له تراءى لهم إذ ذاك في النّوم أو اليقظة بشكل ملاكٍ أو شهيدٍ كاشفاً الأسرار أو واهباً قدراتٍ شتّى ينخدع بها الأشقياء فيجنّوا جنوناً كاملاً" (23/19). يذكّرنا ذلك بحالات الهستيريا التي يصاب بها المواهبيون و أتباعهم و الهياجات العاطفية التي لا يقظة فيها. يعلمنا القدّيس ألا نتكبر بمواهب الله لأنها ليست ثمرة عملنا: "من الخزي أن يفتخر المرء بمحاسن غيره، و لكنه منتهى الجنون أن يتباهى بمواهب الله فيه. فافتخر فقط بما حقّقته قبل ولادتك لأنّ ما حقّقته بعدها قد وهبك الله إيّاه كما وهبك الولادة نفسها. و كلّ الفضائل التي أحكمتها بغير عقلك هي وحدها لك، لأنّ العقل قد وهبك الله إيّاه. و كذلك كافّة القتالات التي خضتّها بدون جسدك خضتّها وحدك بهمّتك أنت، لأنّ جسدك ليس لك بل هو خلقة الله"(23/16). في النّص طرافةٌ واضحةٌ يعلّمنا من خلالها القدّيس ألاّ نتفاخر بأيّة مواهب، و كما يقول بولس الرّسول: "حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب يسوع المسيح". بالرّغم من أنّ بولس الرّسول كان يمتلك اللّغات و النبوّة فإنّه لم يذكرها حين تحدّث عن نفسه، بل افتخر بالشّدائد التي اجتازها حاملاً في جسده علامات المسيح (2كور11/10-30). و يذكر بولس في الآية 14 أنّ الشيطان يغيّر شكله إلى ملاك نور. لذلك رفض الآباء التعامل مع الرّؤى و المواهب دون اختبار و دون قداسة و رفضوا إظهارها لأنّ حبّ الظهور و التّطبيل و التزمير هي أفعالٌ شيطانية مهما كانت دعوتها تقويّةً في الظّاهر (متّى6/1-21). السلمي يوصينا كذلك: "لا تستولين عليك تلك الأفكار الغريبة التي تجنح بك إلى الفحص عن أحكام الله الغامضة، أو عن الرّؤى الممنوحة لبعض النّاس، موحيةً بأنّ الرّب يحابي الوجوه، فإنّها ثمرة الغرور و به تُعرف و تتّسم" (26/83). ينبّهنا السلّمي إلى أنّ المبالغة في الاهتمام بالعجائب على حساب سرّ الكنيسة و سرّ المسيح الفادي هو طريقٌ مهلكٌ: "يغبّط البعض موهبة اجتراح العجائب و غيرها من المواهب الرّوحية الظّاهرة أكثر من أيّ شيءٍ آخر، و قد غاب عن بالهم أنّ مواهب كثيرةً خفيّةً تفوق تلك، و لذلك تبقى في منأىً عن السّقوط" (26/95).

المسيحيّة تدعو إلى ترك الكبرياء و حب الظهور و افتعال الخوارق و الزهو بالنفس، فافتعال العجائب لا يدل لوحده على القداسة: "سأل أحدهم بعض القادرين على التمييز: ما السبب في أنّ الله العارف مسبقاً بهفوات البعض قد أنعم عليهم بمواهبه و عجائبه؟ فأجاب: لكيما يصون و يثبّت باقي النّاس الرّوحانيين، و يُبيّن حرّية الإنسان، و يجعل الذين يسقطون لا عذر لهم يوم الدّين" (26/131).

كاتب سيرة القدّيس أنطونيوس الكبير (القرن الرّابع) يكشف لنا عن عمق الخبرة الرّوحية التي عاشها هذا القديس. لقد خَبِر هذا القدّيس كغيره عجائب و رؤىً و لم يحدّث عنها أو ينشرها "لئلاّ يرتفع بفرط الإعلانات" (2كور12/7) بل تظهر خبراته في أحاديث معاصريه و تلاميذه الذين كتبوا عن حياته. يقول القدّيس: "لماذا يهتمّون بمعرفة المستقبل؟ لن يُدان أحدٌ لأنّه يجهل المستقبل و لن يُطوّب إذا ما عرفه. و سيُحاكم كلُّ امرئٍ على حفظه للإيمان و الوصايا" (سيرة القدّيس أنطونيوس: المقالة 33). و يتكلّم القدّيس عن المعجزات فيقول: "لا نفتخر بأنّنا نطرد الشياطين و لا نتبجّح بأنّنا نشفي المرضى، و لا نعجب بمن يملك سلطان طرد الشياطين و لا نحتقر من لا يملك هذا السلطان. لكن ليعرف كلٌّ منّا نسك الآخر كي يقتدي به و ينافسه أو كي يصلحه. لا، فعل العجائب ليس منّا بل من المخلّص. فالرّب قال لتلاميذه: لا تفرحوا بهذا أنّ الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أنّ أسماءكم قد كُتبت في السّموات (لوقا 10/20) لذلك يقول للذين لا يفتخرون بفضيلتهم بل بالآيات التي يفعلونها: ليس كلّ من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السّموات…كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أليس باسمك تنبّأنا و باسمك أخرجنا الشياطين و باسمك صنعنا قوّاتٍ كثيرة، فحينئذٍ أقول لهم إنّي لم أعرفكم قط، اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم، لأنّه لا يعترف بطرق الضّالين" (المقالة38). و كما قلنا سابقاً، ينبغي أن نصلّي على الدّوام كي نكتسب موهبة تمييز الأرواح، كي كما كُتب "لا نصدّق كلّ روح" (1يو4/1).

في كتاب "أقوال الآباء الشّيوخ" نجد عدّة أقوال تخصّ الموضوع ذاته و نقرأ عن راهبٍ شابٍّ صنع معجزةً إذ شاهد بعض الآباء قاصدين القدّيس أنطونيوس، فأمر الحمير الوحشية أن تأتي إليه و تنقلهم لأنّهم كانوا متعبين. فعندما وصلوا أخبروا القدّيس فقال: "يبدو لي أنّ هذا الرّاهب يشبه سفينةً محمّلةً بالخيرات و لا أعرف ما إذا كانت ستصل إلى المرفأ أم لا" و بعد مدّةٍ بدأ القدّيس يبكي فجأةً و ينتحب، و حين سُئل عن السّبب قال: "عمودٌ كبيرٌ في الكنيسة قد سقط الآن" (وكان يقصد الرّاهب الشّاب)، ثمّ طلب منهم أن يذهبوا إليه، فحين وصلوا شاهدوا الشّاب جالساً يبكي الخطيئة التي فعلها و يطلب أن يصلّي الأنبا أنطونيوس لكي يمنحه الله عشرة أيّامٍ فقط و قال: "أرجو أن أتبرّر" و رقد بعد خمسة أيامٍ... (بستان الرّهبان ص25). هكذا تجرّ الأعاجيب الثّقة بالنفس، و الثّقة تجرّ الإعجاب بالنفس، و الإعجاب يجرّ الكبرياء و هذا يجرّ الموت.

نقرأ في بستان الرّهبان عن أنسطاسيوس السّينائي قوله: "ليس كلُّ من يعمل آياتٍ قدّيساً، بل نجد كثيرين يعملون آياتٍ و تتلاعب بهم الشّياطين. و يسمّي عدّة أشخاصٍ: أسقفٌ هرطوقيٌّ اسمه مقدونيوس محاربٌ للرّوح القدس... نقل شجرة زيتونٍ من موضعها و غرسها في موضعٍ آخرَ بشكل صلاةٍ... و جعل ميتاً يتكلّم... و لمّا مات ذلك الأسقف الهرطوقي ظهرت على قبره خيالاتٌ كثيرةٌ و عملت آياتٍ، من أجل ذلك لا يجب أن تقبل كلّ من يعمل آياتٍ قائلاً أنّه قدّيسٌ بل يجب أن يُمتحنوا و يُختبروا (1يو 4/1و2)، و الرّسول يقول: لأنّ الشّيطان نفسه يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور. فليس عظيماً إن كان خدّامه أيضاً يغيّرون شكلهم كخدّامٍ للبرِّ. الذين نهايتهم تكون حسب أعمالهم لأنّ الشياطين الأنجاس بواسطة الأنبياء الكذبة يصنعون آياتٍ و أشفيةً جسديّةً ليخدعوا من كان سهل الانقياد لخداعهم، و قد يُظهرون أحياناً ميتاً قائماً بواسطة صلاةٍ بطّالةٍ من إنسانٍ مضلٍّ (إشارة إلى الشّعوذة)... كذلك سيمون السّاحر في عهد الرّسل، فكم من الآيات صنع".

يقول البابا أثناسيوس الإسكندري: "ليس في الأرثوذكسية فقط اجتراح آيات، بل و قومٌ أردياءٌ، مراراً كثيرةً تقشّفوا و قدّموا لله أتعاباً، فأخذوا أجرهم في هذا العالم فسحةً من الله، كشفاء الأمراض لكيما يسمعوا ذلك في العالم العتيد: إنّك قد استوفيت خيراتك في حياتك".

نقرأ أيضاً في بستان الرّهبان عن أنّ راهباً متكبّراً وافى القدّيس باخوميوس و الأب بلامون و كان الوقت شتاءً و النّار مشتعلةً أمامهم، فقال لهما الرّاهب و قد دخله روح المسيح الدجّال: "من منكما له إيمانٌ صادقً بالله، فليقف على هذا الجمر و يقول الصّلاة التي علّمها السيّد لتلاميذه" فزجره الشّيخ قائلاً: "ملعونٌ هو ذلك الشّيطان النّجس الذي ألقى هذا الضمير الفارغ في قلبك فكفّ عن هذا الأمر، لأنّه من شيطان العُجب" فلم يحفل ذلك الرّاهب بقول الشّيخ بل قال "أنا، أنا" و مشى على الجمر و قال الصّلاة و خرج ماضياً إلى مسكنه بكبرياء قلبٍ. فقال باخوميوس للشّيخ: "يعلم الرّب أنّي تعجّبت من ذلك الأخ، الذي وقف على هذا الجمر ولم تحترق قدماه" فقال له الشّيخ: "لا تعجب يا بني من هذا لأنّه بلا شكٍّ من فعل الشّيطان، و لأجل أنّه لم يذلّل قلبه، تسامح الله في أن لا تحترق قدماه كالمكتوب: أنّ الله يرسل لذوي الاعوجاج طرقاً معوجّةً (مز 18/26) و لو علمت يا بني ما ينتهي إليه أمره لكنت تبكي على شقاوته".

و حدث أن تقدّم بعض الرّهبان إلى أنبا باخوميوس يسألونه: "قل لنا يا أبانا ما الذي يمكننا أن نعمله لنحظى بالقدرة على إجراء الآيات و العجائب ؟" فأجابهم بابتسامةٍ: "إن شئتم أن تسعوا سعياً روحيّاً سامياً فلا تطلبوا هذه المقدرة لأنّها مشوبةٌ بشيءٍ من الزهو، بل اسعوا بالحري لتظفروا بالقوّة التي تمكّنكم من إجراء العجائب الرّوحية. فإن رأيتم عابد وثنٍ و أنرتم أمامه السّبيل الذي يقوده إلى معرفة الله فقد أحييتم ميتاً، و إذا رددّتم أحد المبتدعين في الدّين إلى الإيمان الأرثوذكسي فتحتم أعين العميان، و إذا جعلتم من البخيل كريماً شفيتم يداً مشلولةً، و إذا حوّلتم الكسول نشيطاً منحتم الشّفاء لمقعدٍ مفلوجٍ، و إذا حوّلتم الغضوب وديعاً أخرجتم شيطاناً، فهل هناك شيءٌ يطمع الإنسان أن يناله أعظم من هذا؟"

و سمع بسيرة الأنبا باخوميوس قومٌ من رهبانٍ هراطقة فأرسلوا و قالوا للأخوة: "إنّ كبيرنا مقدونيوس قد أرسلنا لأبيكم قائلاً: إن كنت رجل الله حقّاً و ما سمعناه عنك صحيحاً، فتعال لنعبر أنا و أنت النّهر سائرين و أرجلنا على سطح الماء، فيعرف كلُّ واحدٍ عمليّاً من منّا له دالّةٌ و وجاهةٌ عند الله." فعرّف الأخوة الأب بذلك، فأنكر عليهم ذلك قائلاً: "لماذا استجزتم سماع هذا الكلام بالجملة ؟ أما علمتم أنّ هذه المسائل بعيدةٌ عن الله. و لا تقبلها سيرتنا ؟ لأنّه أيُّ ناموسٍ يأمر بهذا و يبعثنا على القيام به ؟" و قال لهم: "قد يمكن للهرطوقي أن يعبر على ظهر النّهر كعبوره على اليابسة بمظافرة الشيطان إيّاه، و بسماح الله حتّى لا ينفكّ كفره، فامضوا و قولوا لهم: هكذا قال عبد الله باخوميوس: إنّ حرصي أنا هو هذا: ليس لكي أعبر هذا النّهر ماشياً، بل أن أعبر دينونة الله الرّهيبة و أن أعبر أيضاً هذه الأعمال الشّيطانية بقوّة الرّب. و لمّا قال هذا الكلام اقتنع الأخوة بألاّ يفتخروا بأعمالهم، و لا يشتهوا اجتراح الآيات، و لا يجرّبوا الله البتّة حسبما كُتب: "لا تجرّب الرّب إلهك".

لتكن مشيئتك

يعلّمنا كتاب "بستان الرّهبان" أنّه إذا صلّينا إلى الله فلا نقل له: "ارفع عنّي هذا و هبني ذاك" بل أن نقول له: "يا ربّي يسوع أنت عوني و رجائي و أنا في يديك و أنت تعرف ما هو صالحٌ لي، فأعنّي و لا تتركني أخطئ إليك أو أتبع هواي، و لا ترفضني فإنّي ضعيفٌ و لا تسلّمني لأعدائي فإنّي لجأت إليك فخلّصني بتحنّنك. ليخز كلّ الذين يقومون عليّ لأنّك أنت القادر على كلّ شيءٍ و لك المجد"(ص142). فلنطلب ما يوافق الله أوّلاً و لنهرب من العبودية لذواتنا و لرغباتنا و أهوائنا.

نختم هذا المقال بهذه القصة من الكتاب ذاته: أخبروا عن شيخٍ قدّيسٍ، أنّه كان داخلاً إلى مدينةٍ كبيرةٍ لها أميرٌ كبيرٌ، و كانت ابنته قد قاربت الموت، فلمّا رأى القدّيس أمسكه و أعاقه عن السّفر قائلاً له: "لن أطلقك حتّى تصلّي على ابنتي فتُعافى". فتبعه الشّيخ إلى موضع الصّبية، و وقف فوق رأسها، و بسط يديه قائلاً: "أيّها الرّب العارف بخير النّفوس، يا عالم الغيوب، يا من لا يشاء أن يهلك أحدٌ من جنس البشر، أنت تعلم حيرة هذه الصّبية، إرادتك افعلها معها"، و للوقت أسلمت الصّبية روحها، فصاح أبوها على الشّيخ قائلاً: "وأويلاه منك يا شيخ، فإن كنت لم تقدر أن تقيمها، فلا أقلّ من أن تعطيها لي كما كانت، و إلاّ فلن أطلق سبيلك"، فطلب الشّيخ من الله فعادت نفسها إليها بطلبة الشّيخ مرّةً أخرى. و لمّا عوفيت لم تلبث أن سارت سيرةً رديئةً، فأفسدت جلال أبيها، فمضى إلى موضع الشّيخ و طلب منه قائلاً: "أريد أن تموت، فقد عاشت عيشةً رديئةً، و أنا أحتشم أن أمشي بسببها"، فقال له الشّيخ: أنا طلبت من الله الخير فيما يريد، و قد علم الله أنّ موتها أصلح، لكنّك لم تُرد، و الآن لا شأن لي معك" و مضى الشّيخ و تركه.

بعض المراجع

(1) مقالة عن المونتانية: أسعد قطّان. مجلّة النّور، العدد2/1996.

(2) كنيسة الرّوح القدس: الأب نيقولا آفاناسييف. منشورات النّور.

(3) آباء القرون الثلاثة الأولى: د.أسد رستم، منشورات النّور.

(4) شرح الذّهبي الفم لإنجيل متّى. ترجمة عدنان طرابلسي.

(5) بستان الرّهبان.

(6) السلّم إلى الله: القدّيس يوحنّا السلّمي.

(7) تاريخ كنيسة مدينة الله إنطاكية العظمى: د.أسد رستم. ج1

(8) سيرة القدّيس أنطونيوس الكبير للقدّيس أثناسيوس الكبير. ترجمة الأب ميشيل نجم.

(9) المعجزات في الإنجيل: اسطفان شربنتييه، من سلسلة دراسات في الكتاب المقدّس رقم3، نشرته دار المشرق، لبنان.

(10) الباراسيكولوجيا (الجزء 1و2) للدكتور روجيه خوري، نشرته مكتبة صادر، لبنان.

(11) أهم أعمال آباء الكنيسة في مجموعة آباء الكنيسة ما بعد نيقية (بالإنكليزية).