وعادت هيروديا

وعادت هيروديا

 

يروى أنهُ في زمنِ نبيِّ اللهِ يحى, عشقَ هيرودوس, حاكمَ فلسطين في عهده, إبنةَ أخيهِ هيروديا, وأنها قد شغفتُهُُ حبَّاً, وفُتنَ بمحاسنِِ جمالِها حتى عزمَ على الزواجِ منها, تساعدُهُ في ذلك أمُّ الفتاةِ واقاُربُها.  فعرفَ يحى بالأمرِ واستنكرَه, وأعلنَ أنه سيكونُ زواجاً باطلاً لا تقرُّه الشريعة, ولا يعترفُ به الكتاب, لأنهما يحرمانِ زواجَ العمِّ من ابنةِ أخيه.

 

وشاعَ رأيُهُ في هذا الزواج بين خاصةِ الناسِ وعامتِها, فعرفَهُ خُدامُ الهيكل ورجالُ الدين, كما عرفه الباعة في الأسواق , وتناولته الألسنُ في المجالسِ والقصورِ والساحات .. وتناهت معارضةُ يحى إلى مسامعِ هيروديا, فحزنت واغتمت, وهي تعرفُ مقدارَ ما لرأيِ يحى من أهميةٍ وتأثيرٍ على حياةِ الناس.  ولكنها لم تدعِ الحزنَ يسيطرُ عليها, بل بدَّلتِ الهمَ بالغضب, والكربَ بالحقد, وأضمرت أن تنالَ من يحى ما وسِعَها من كيدٍ وشر..

 

لقد خافت هيروديا أن تذهبَ فتوى يحى بمعسولِ رجائها, وأن تحُولَ بينها وبين زواجها من عمها الحاكم, فأسرعت وهي تتسلحُ بمفاتنها, وتتمنطقُ بإغوائها إلى قصره, وقد بدت على أحسنِ ما تكونُ عليه من جمالٍ, وأناقةٍ, وفتنة.

 

ودخلت على هيرودوس, وهي على ما هي عليه من سحر, فهبَّ من مكانِه يستقبلُها, وقد أخذت منه العقلَ وسلبتهُ الإرادة, وارتمى أمامها وهو يقول: أهلاً بسيدةِ الجمال, لقد جئتِ عاشقاً ينحني على يديك وأتيت والهاً يركعُ على قدميك.  إني طوعُ بَنَانِك, مريني بما تحبين وتشتهين, وستجديني عبداً طائعاً, لا ُيخيِّبُ لك رجاء, ولا يُخالفُ لك رغبة.

 

 وألقتِ الفاتنةُ بدلالها عليه, وعهرت ببكائها أمامه, حتى أفقدتُهُ صوابَه, ولما أحست أنه مستعدٌ لتلبيةِ رغباتها, قالت بحزم: لئن كان الملكُ يصبرُ على ظلمٍ يأتيه, أو على خزيٍ ينالُه, فإني أربأ أن أكونَ زوجةًً له ...

 

وعجبَ هيرودوس مما تقولُهُ له, وهو يعلمُ أنْ لا أحد بينَ الناس من يستطيعُ أن يرفعَ بناظريه نحوه, فكيف يسمعُ أن هناكَ من يتطاولُ عليه ... وهل يعقلُ ذلك ؟ فتبدلت سحنتُهُ فجأة, وقال لها غاضباَ: أفصحي عما في نفسك يا هيروديا قبل أن أجعلَ الخيلَ تدوسُ بسنابكها جميعَ الناس في هذه المدينة.

 

وانتظرت قليلاً, وهي ترومُ زيادةَ حماسه وغضبه, ثم أعقبت: لئن ارتضى سيدي الملك بأن يتطاولَ عليه يحى بن زكريا, فإني أقبلُ بحكمه, وأرضخُ لمشيئته.  لقد أوغرتْ صدرَه بالحقدِ على يحى, وملأت رأسَه بالحَنَقِ عليه, حتى أعمتهُ الشهوةُ عن كل نداءٍ للعقل, وعن كل صوتٍ للضمير, فأوعز إلى حرسه بأن يأتوهُ برأس يحى على سنانِ الحراب.  ولم يمضي إلا  قليلٌ من الوقت حتى كان الرأسُ الشريف بين يدي هيروديا, تطفئ بمرآهُ الغيظَ الذي أكلَ نفسها, وتروي بمنظره الحقدَ الذي أعمى قلبها ...

 

 

كم مرةٍ ناديتُكُم يا سادتي

ناجيتُكُم ..

قلتُ لكُم ..

وسألتُكُم ..

أن تُنصِتوا قليلاً

وتسمعوا أناتِ الأنبياء ..

وعندما عدتم ..

علتكُمُ الدهشة ..

وارتسمت على جباهِكُم المرهقة

منذُ خمسينَ عاماً ..

علاماتُ استفهامٍٍ كبيرة

وأجبتموني أنكم لم تسمعوا شيئاً ..

فلم أعجب ..

ودعوتُكُم ثانيةًًًَ ..

رجوتكم أن تنصِتوا

لاستغاثةِ يوسفَ في غياهبِ جُبِّهِ

وهو يجهشُ بالبكاء

لكنكم لم تسمعوا شيئاًً مرةً أخرى

وأجبتموني بالنفي

كما أجابني العالمُ كلُّهُ

لا أنينَ

لا صراخَ

لا نداء ..

وشاءَ القدرُ أن نسمعَ جميعاً

ونسمعَ جيداً ..

ونرى مصيبةَ المصائب

وأرضَ كربلاء ..

فعادت هيروديا إلى قانا

ترفعُ رأسَ يحى

مئة مرةٍ ونيِِّف

عند قانا تمزقتِ الكلمات

وتمزقت قلوبُنا

وهيمنَ الصمتُ المطبق

وتزاحمتِ الأرواحُ إلى العلياء

ماذا يفعلُ الإنسانُ

في زمنِ الأدعياء ؟

فقد قتلَ بنو صهيون

كلَّ الأولياء ..

وكلَّ الأنبياء ..

وكلَّ الشرفاء ..

ومنذُ الآفِ السنين

ما زالوا يقتلون أهلَ الله

تحت السماءِ الزرقاء

واليومَ في قانا

اعادوا الكرَّةَ تحت القبعاتِ الزرقاء ..

عند قانا ..

فرَّتِ الدنيا الى المجهول ..

وتبعها كلُّ شئٍ

حتى الهواء ..

وبقيت عصافيرُ بلادي

مسمرةً على الأغصان

وتوقفت إلى الأبدِ عن الغناء

وأفسحَ كلُّ شئٍ المكانَ للأشلاء

وعادت وحدُها هيروديا

مع عناقيدِ الغضب

متنكرةً بصورةِ بيريز

تنهشُ الأجسادَ

وتشربُ الدماء ..

وهي تزينُ ضفائرَ شعرِها

بغصيناتِ الزيتون

وتبحثُ عن رأسِ يحى

لترفعه على الرماح

بوحشيةٍ وعداء ..

ونبيُّ الله يئنُ

وتترددُ الأصداء

من قانا الجليل

إلى ديرِ ياسينَ وسحمر

مروراً بصلحا والخيام

حتى بيروتَ والخليل

وهيروديا تتراقصُ فرحاً

بالنصرِ الكبير

على الشيوخِ والرضَّعِِ والنساء

وتسخرُ من كلِّ العالم

من كلِّ الأممِ المتحدة

واللامتحدة ..

ومن مجلسِ امنها المهترئ

وتخاطبُ حكامَ العصر

باحتقارٍ وازدراء

تتوعدُ في عقرِ الدارِ

ستحرقُ أرضنا بالنارِ

الطفلُ بالطفل ..

الدمُ بالدم ..

لن ننسى أبداًً يا قانا

يا عرسَ الدم

لن ننسى أبداًً يا قانا

يا فجرَ العز

فنجيعُك قامَ ليسقينا

وليروي الأرز

لتبقي أنتِ خالدةً

وقلوبُنا عندكِ حاضرةً

يا مهبطَ الوحي

ويا جنةَ الأصفياء

يا معراجنا لله

من عرسِك إلى الفناء

إلى ما بعدِ الفناء

فقدرنا أننا لم ننسى

ولا ننسى

ولن ننسى

ولك يا قانا كلُّ شموخٍ

كلُّ مجدٍ

كلُّّ بقاء