you can read this page only with arabic font
also you can read it better with sindbad or arabic netscape
 
 
مركز الجواد للعلوم الدينية
 
 
 
 
 
صفحة المقالات
 
 
 
 
تأملات في العنف
 
 
ولاية الفقيه والشورى
 
 
 
ماذا نفهم من الشورى في الاسلام
 
 
التعددية في المفهوم الاسلامي
 

 
 
 
 
تأملات في العنف
 
 
 
  ليست مشكلة العنف التي يواجهها واقعنا المعاصر هي بالمشكلة العادية التي يمكن المرور من جانبها بسهولة،لان العنف بطبيعته ليس مجرد سلوك استثنائي بل قد يتحول إلى واقع ثقافي مترسخ يحمل معه مجموعة من الإفرازات التي تبقى تموجاتها تثير هواجسا وتخلق صدمات.ذلك ان جذور العنف تستمد تكوينها من مجموعة من الأسباب والعناصر التي تترك آثارا شمولية على كافة الأصعدة،أهمها انسيابه إلى المستقبل وتحوله إلى كيان ثابت في البنى التحتية
العنف يمثل استثناءا في حياة الانسان الكائن الاجتماعي وهو يحدث عندما لا تستجيب المؤسسة الاجتماعية لمصالحه  التي يراها حقوقا مشروعة لنفسه،وعندما لايستطيع ان يعبر عن ذاته ورأيه وحقوقه وكما يقول اريك فروم فان العنف والتدمير يمثلان الناتج التلقائي والحتمي للشعور بالإحباط الذي ينشأ عن الصدمة الناتجة عن خذلان الآمال والتطلعات لسبب أو آخر. كما ان العنف في علم النفس هو إحباط وحالة مؤلمة تنزع الذات إلى إبعادها والى الخلاص من الضغط الذي ينجم عنها ويكون العدوان أحيانا السلوك الدفاعي للذات في سعيها وراء الخلاص من ضغط الإحباط. والإحباط حالة من اليأس القاتل الذي يستولي على الانسان فتسلبه قدرة التفكير المنطقي السليم وتدفعه إلى اتخاذ مواقف غير طبيعية لايمكن التكهن بنتائجها لذلك لا يشكل العنف عادة سلوكا عقلانيا ينشأ من وجود استقرار نفسي في أجواء طبيعية مناسبة، فهو سلوك غريزي        والكلام لعلماء النفس - هدفه تفريغ الطاقة العدوانية الكامنة داخل الانسان
ولكن السبب الرئيسي لوجود العنف هوا فتقاد أجواء الحرية والقدرة على التعبير والحركة، وسيطرة الاستبداد والشمولية، وتمركز القوة وقمع التعدد الفكري أو السياسي أو الطائفي ، خاصة عندما تغيب القنوات الوسيطة التي تنظم العلاقات بين الحاكم والمحكوم وعدم اعتراف الأنظمة الحاكمة بمبدأ المعارضة السياسية وتعقب العناصر والقوى المعارضة وقمعها،فعندما لا توجد قنوات للتعبير الشرعي ينفتح الباب أمام العنف. فغياب القدرة على التعبير السلمي الحر يجر الجماعات والأفراد إلى الوقوع في حلقة متسلسلة من أعمال العنف قد لا تنتهي بسهولة
وهنا يطرح هذا التساؤل وتساؤلات أخرى هل ان العنف الذي ينشأ ويتكون من خلال هذه العناصر هو قادر على ان يلبي ويحقق رغبات وامال المحرومين والمستضعفين ام انه سيزيد الوضع سوءا ويضيف قائمة جديدة من الماسي تتراكم فوق الماسي الأخرى
ان رد الضعفاء والمضطهدين عبر العنف هو في اغلب الأحيان رد فعل غير مدروس منبثق من حالة اليأس والشعور بالعجز وافتقاد القدرة على ممارسة أي تكتيك آخر يمكن ان يواجه تلك الأنظمة الشمولية ،والحال ان العنف غير قادر على شل تلك الآلة القمعية ان لم يزد في ضراوته
ولكن الإشكال الرئيسي على مقولة العنف يتمثل شرعية استخدام العنف باعتباره عملا غير منبثق من ظروف عادية وطبيعية بل هو استثناء ترجمته الظروف غير العادية إلى قناة للتعبير الحاد عن الشعور الغاضب الذي يختزنه الجمهور. لذلك فان العنف لا يتقيد بقواعد وثوابت بل انه يكتسب فعاليته وقوته من كونه غير مقنن وغير مقيد بقواعد ثابتة متفق بها يمكن الاعتماد عليها في تقنين العنف وعدم تجاوزه للحدود المرسومة، ومن هنا فانه مخيف ومرعب،لان القواعد والقوانين التي يتقيد بها العنف هي فقط كل ما يخدم القضية التي يناضل من اجلها
ويمكن ان نجد في القران الكريم الكثير من الآيات القرآنية التي تثبت أرجحية السلام والسلم وترك العنف مثل : {وعباد الرحمن..وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}(الفرقان63-72) ، {ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}(فصلت34) ، {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولاتتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين}(البقرة208)،{فبما رحمة من الله لنت ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم}(آل عمران159) هذه الآيات الشريفة بالإضافة إلى كثير من الآيات التي وردت في هذا الباب تثبت ان الشرعية هي للسلام واللاعنف،وان العنف عمل خارج عن الأصل والقاعدة لذلك فان شرعيته تحتاج إلى ترخيص وأذن. وهنا يقول المرجع الديني الإمام الشيرازي:الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل والحرب هي الاضطرار،ان الجهاد والحرب حكم ثانوي اضطراري وان السلم هو الحكم الأولي
أما استدلال البعض بآيات من القران الكريم لاثبات شرعية العنف كآيات الجهاد والقتال ورد العدوان،فان الاستدلال فيه تأمل ذلك أولا:ان الجهاد في سبيل الله لايعني العنف إطلاقا،وثانيا ان تطبيق حكم الجهاد والقتال في سبيل الله يخضع إلى شروط وقيود كثيرة ذكرتها أبواب الفقه الموسعة أولها اتباع السلم {فان اعتزلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}(النساء90). وكثير من آيات القتال وردت في موارد خاصة في حروب الرسول(ص) مع المشركين بعد ان إذن الله تعالى له بالقتال{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير}(الانبياء38) ، لذلك لايمكن الأخذ بها كدليل على جواز العنف الا بعد إحراز شمولها وانطباقها على الموارد الأخرى لأنها من الموارد الخطيرة التي يتم فيها التعرض لدماء الناس واموالهم وأعراضهم والمأمور بها التقوى والاحتياط{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين}البقرة194.وعلى فرض التسليم بدلالتها فان الإشكال يبقى في كون هذا المصداق هو من المصاديق التي ينطبق عليه مفهوم الآية القرآنية . فهذه الآيات القرآنية في مقام الإهمال وليست في مقام الإطلاق وبيان الحكم الشرعي حتى يمكن الاستفادة منها في شمول لكل مورد. ولايمكن الاعتماد على مجرد مفهوم وظاهر الآية القرآنية واستخدامه كدليل على شرعية استخدام العنف وإلا فان الفوضى تعم ويصبح القران وسيلة لقتل أي مسلم كما ذكر التاريخ ذلك في قضية الخوارج الذين رفعوا شعار لاحكم الا لله
ان سيرة الرسول(ص) وأقواله الشريفة يمكن ان ترفدنا بالكثير من الرؤى التي توضح لنا الطريق في مسألة شرعية العنف وعدم شرعيته،فعن النبي(ص) في حديث المناهي قال:{ومن لطم خد امرئ مسلم أو وجهه بدد الله عظامه يوم القيامة وحشر مغلولا حتى يدخل جهنم الا ان يتوب}، وعن علي(ع) ان رسول الله(ص) قال فيما عهد إليه:{وإياك والتسرع إلى سفك الدماء لغير حلها فانه ليس اعظم من ذلك تبعة}، وقال(ص)أيضا:{من قتل رجلا من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة التي توجد ريحها مسيرة اثني عشر عاما}. ومن اقو اله (ص) في مدح السلم والرفق وذم العنف : (ان الرفق لم يوضع على شيء الا زانه ولا نزع من شيء الا شانه..ان الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له
ومن أقوال أمير المؤمنين(ع) في هذا الباب: رأس الجهل الخرق،ليكن شيمتك الرفق فمن كثر خرقه قل عقله،يا همام المؤمن هو..سهل الخليقة لين العريكة..نفسه اصلب من الصلد..لاجشع ولاهلع ولاعنف ولاصلف..وصول في غير عنف..).
وبما ان العنف قد يؤدي إلى دمار الممتلكات وقتل الأنفس إضافة إلى العنف المضاد الذي يمكن ان ترد به السلطات على عنف الجماعات،فان الإضرار بطبقات وفئات من الأمة قد يشكك بشرعية العنف لان العنف من الأمور الهامة التي يحتاج فيها إلى مشورة الأمة{وامرهم شورى بينهم} لذلك فان شرعية الجماعة التي تستخدم العنف هي محل شك ان افتقد إلى قبول الأمة لهذا المبدأ.وعن الرسول(ص):{لا يحل دم امرئ ولا ماله الا بطيبة نفسه}. وعلى فرض ان المعارضة تستخدم العنف باعتباره حقا مشروعا لها في الدفاع عن مصالحها فان العنف قد يحقق لها مصالحها على الأمد القصير ولكنه قد يضر بمصالح الآخرين إضرارا كبيرا
ان إشكالية العنف ربما تكون اكثر وضوحا عندما يكون العنف هو نفس الأسلوب الذي يستخدمه النظام الاستبدادي القمعي.حيث يفقد العنف حينئذ المبررات الأخلاقية التي تجعل منه قضية مبدئية وثورية،لقد كان سان جوست اكثر شجاعة من روبسيرعندما قال بأنه يجب الحكم أما بالفضيلة أو الإرهاب وانه لم يحن الوقت بعد لفعل الخير،وذلك لانه اقر علنا بأنه ليس هناك ما هو مشترك بين الإرهاب والأخلاق ولكن الإرهاب ما هو إلا وسيلة للحفاظ على السلطة السياسية،انه وسيلة ينظر إليها من ناحية فعاليتها وليس من ناحية أخلاقياتها
وقد تحدد المعارضة العنف بكونه مجرد أداة مؤقتة ووسيلة آنية تستخدم في ظروف استثنائية.وهنا قد يسيطر القائمون على العنف لبعض الوقت،ولكن تنبع خطورة العنف من كونه يمتلك من الخصائص الذاتية التي تجعله قادرا على تجاوز كل الوسائل الأخرى بحيث يصبح الوسيلة الوحيدة التي تسيطر على السلوك الحركي العام ومن ثم يستنفذ العنف الغاية ويحتويها ليصبح هو الهدف الأول والأخير.و حتى ولو تحرك العنف بشكل واع ضمن إطار غير متطرف يطال أهداف المدى القصير سيكمن على الدوام في ان واقع الوسيلة تغلب الغاية بحيث يؤدي إلى إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم الثقافي والسياسي كله. والأخطر من ذلك هو ذلك التحول الدراماتيكي الذي يمكن ان يحققه العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة حيث تتحول بالتدريج أدوات العنف إلى غايات أساسية للتدمير الذاتي والخارجي فتفقد الجماعة كل قدرة على إعادة التوازن الداخلي والحفاظ على التماسك وبالتالي تفقد سلطتها الداخلي والجماهيرية
ان العنف لا تتوقف مشكلته عند حد كونه أداة بل قد يتحول إلى فكرة عقائدية تتجه لتشكيل حالة من التقديس الجامح لفكرة العنف والإيمان الذاتي المطلق بمستخدميه مما يحول المجتمع بأكمله إلى عدو وهمي لهذه الجماعة.ولهذا فان الجماعة التي تمارس العنف وتنغمس فيه إلى حد تقديسه لاترى من نفسها الا الوجود الأحق والأفضل إذ لامجال مع سيطرة وتحكم ثقافة العنف إلى وجود أخر يحمل توجهات أخرى. فمع السيطرة المطلقة لأيديولوجية العنف وافتقاد التعدد والتنوع تتوسع دوائر الانعزال الاستبداد والانشقاق والقمع
ومن البصمات التي يتركها العنف على الواقع يمكن التوصل لفهم حقيقة العنف وجوهره،إذ انه لايستطيع إلا ان يحقق نتائج وقتية يتوهم فيها أصحاب العنف انهم يحققون كل طموحاتهم،ولكن عندما يكتشفون انهم لا يحققون شيئا تسيطر عليهم حالات اليأس والإحباط والجمود والانعزال الأكثر.ذلك ان طبيعة العنف وتشكيلته الذاتية تحمل في بذورها الانفعالية والسعي السريع لإنجاز شيء ما بتجاوز السنن الطبيعية والقوانين التاريخية التي يجب اجتيازها عبر مراحل طويلة وبعقلانية
ولكن المشكلة لا تتوقف عند كونه أمرا انفعاليا بل تكمن الخطورة الأساسية في اختراق العنف للبنى الرئيسية بحيث يصبح متسلطا على كافة الأنشطة ويكون العنف اللغة الوحيدة في العمل والخطاب الداخلي والخارجي،ويكون هو المنظار الضيق والوحيد الذي يرسم الحقائق والرؤى.
ولاشك فان التأثير البنيوي الذي يخلفه العنف هو من الخطر بحيث يمكن ان يجعل المجتمع كله على حافة الانفجار في أي وقت.ومشكلة استخدام العنف كأداة تغيير استثنائية في بعض الأوقات هو انه من يضمن ان لا يبقى العنف جاثما في الأوكار منتظرا فريسته،فقد يتغلغل الاستثناء ويصبح هو القاعدة بحيث لا يبقى مجال للقيام بأي أداء سلمي حتى لو توفرت الظروف لتحقيق ذلك
ويتحول العنف في بعض الأحيان إلى فخ حين يعمد النظام الحاكم إلى إثارة العنف لاصطياد المعارضة في لعبة العنف المضاد من اجل القضاء عليها وتصفيتها بصورة قانونية أو تشويه صورتها ومبادئها بعد ان تورطها بالدماء،لذلك فان اكبر خسارة تتكبدها المعارضة هو دخولها في لعبة العنف والعنف المضاد المتصاعد بوتيرة حادة مما يعجل بانتهائها وتصفية وجودها التنظيمي والسياسي والرسمي.لذلك فقدت حركة الإخوان المسلمين قائدها المؤسس في عملية عنف مضاد قام بها النظام الحاكم ردا على عمليات اغتيال قام بها الجهاز السري الخاص للإخوان
ان نظرة على واقع ما خلفه العنف من آثار يوحي بوجود خسائر كبيرة نالت المعارضة تفوق بكثير ما يتوهم انه مكاسب،أهمها أنها تخسر وجودها الرسمي والعلني الذي يعطيها القدرة على الارتباط بالجماهير ارتباطا مباشرا.بالإضافة إلى ذلك الاستنزاف غير المجدي الذي يشل الحركة ويقضي على إمكانياتها ويزعزع الروح المعنوية للأفراد ان لم يقضي على وجودها الخارجي.وفي بعض الأحيان فان ما يخلفه العنف اكبر من أن يعد من الخسائر فكلمة عنيفة أو موقف حاد أو عملية مسلحة كفيلة بإشعال أزمة سياسية أو اجتماعية أو حرب ضروس كالحرب العالمية الأولى التي بدأت بعملية اغتيال وانتهت بعشرة ملايين قتيل
وإذا كان العنف عادة يشكل سلاحا انتحاريا في يد المعارضة اليائسة،فان اللاعنف على العكس من ذلك هو سلاح فعال في المقاومة السلمية التي تشل العدو وتسلبه أي حجة قانونية يحاول من خلالها ان يقضي على المعارضة أو يلغيها.لانه يمتلك القدرة على احتواء العدو وتليينه بينما العنف يثيره ويجعله اكثر قسوة، والخصم حينئذ ليس عدوا يجب إزالته من الوجود إنما هو إنسان يجب إخضاعه لهزة شعورية إنسانية تفتح عيونه، فاللاعنف يختزن قوة معنوية تجبر الخصم على التفكير والتساؤل حول صحة أعماله.وقد قال النبي عيسى(ع):{قيل لكم احبوا أصدقاءكم ولكن ذلك ليس بمهم فان العشارين أيضا يحبون أصدقاءهم وانما أقول لكم احبوا أعداءكم}،ويقول الإمام الشيرازي معلقا على هذا الكلام:ان الظاهر من كلام عيسى(ع) ان السبب لا يرجع إلى نفع العدو بمثل ما يرجع بنفع الانسان نفسه فان الانسان الذي يحب عدوه يقوم بوصله ومواصلته وذلك ما يسبب رجوع العدو عن عداوته
ويعتقد البعض ان ممارسة اللاعنف هو استسلام ذليل نابع من موقف الضعف والخوف وبالتالي فان العنف هو موقف القوة والشجاعة فقط. ولكن الطبيعة الإنسانية التي تتكون من جانبين انفعالي وعقلاني تثبت عكس ذلك،فعندما لايستطيع الانسان ان يعالج موقف ما بروية وتعقل ويصاب بالعجز والوهن تنفجر الحالة الانفعالية عنده على شكل فعل عنيف كرد دفاعي يعطيه شعورا وهميا بالقوة والشجاعة والعنف هنا ما هو الا قناع لضعف حقيقي يعيشه العنيف بشكل لاواع. وفي الرواية المروية عن رسول الله(ص) انه قال:{ان الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لارفق له}. ان اللاعنف عمل يتطلب الكثير من الصبر والتحمل والتعقل قبل الإقدام على أي عمل لذلك كثيرا ما يخلط بين اللاعنف والسلبية والاستسلام،لكن الحقيقة غير ذلك فاللاعنف فعل بطولي يفترض السيطرة التامة على الذات،والشجاعة الحقيقية هي الشجاعة التي تتطلب صمودا نفسيا قويا أمام الانفعالات التي تثيرها ظروف الانتقام والقمع والثار،فبقدر ارتجالية العنف فان اللاعنف يحمل في طياته قوة التفكير والحلم والقدرة على إدارة الأزمة بحكمة وبصيرة بالإضافة إلى كونه فعل بعيد عن العفوية ويرتكز على التفكير العميق والتحضير الدقيق،انه فعل إيجابي يتطلب الشجاعة المعنوية، يقول الرسول(ص): من علامات المؤمن اللاعنف
واخيرا فان العنف تجسده هذه الحكمة بإيجاز: النيران العنيفة تأكل نفسها سريعا ،الزخات القصيرة تدوم أطول ولكن الأعاصير قصيرة العمر،وذلك الذي يريد مباراة الزمن بسرعة يتعب قبل أوانه. شكسبير
 
 
 
 



 
ولاية الفقيه والشورى
 

يسود الجدل كثيرا هذه الأيام حول مسألة ولاية الفقيه وابعاد هذه الولاية وحدودها ، خاصة بعد ان خرجت هذه المسألة من أجواءها التخصصية الذي ظلت راقدة فيه لمئات السنين ، لتتخذ بعدا عالميا واسعا وتتحول إلى مادة إعلامية تتناولها الكثير من وسائل الإعلام بالنقد والتحليل . ولكن المشكلة الأساسية التي سلبت العناصر الموضوعية لبحث ولاية الفقيه بحيث همشته أفقدته جوهريته ، هو تحول هذا البحث إلى مجرد ملف سياسي جرته الظروف الدولية للظهور 
هذا التقمص السياسي الذي سيطر على بحث ولاية الفقيه افقدها الروح النظرية التي تمتلكها كنظرية فكرية عميقة تمتلك الدلائل الشرعية والعقلية والخطوط العامة التي تبين منهجها الكامل بوضوح ودقة
ولكن الاستغلال السياسي والإعلامي الذي تعرضت له هذه النظرية سطحها وسلبها واقعيتها أعطى نظرة مشوهة ومشوشة عنها بعد ما تحولت إلى سجال عقيم بين طرفين ، طرف يرى في ولاية الفقيه سلطة سياسية مطلقة لاتقبل النقاش ، أخر يرى فيها تجسيدا للديكتاتورية فيرفضها رفضا مطلقا لانه ينظر إلى ولاية الفقيه من خلال الواقع المتجسد عمليا ، ولاينظر إليها من خلال أبعادها النظرية والفكرية لذلك فهو لا يفهمها فهما منطقيا وكاملا . وهذه مشكلة منهجية تسود بعض الأوساط العلمانية وهي عدم التعمق في فهم المفاهيم الإسلامية
لابد من إلقاء نظرة على مفهوم ولاية الفقيه ومحاولة فهم أبعادها وحدودها حتى يمكن استجلاء تلك النقاط الغامضة الذي خلفه التسطيح الجدلي والاستغلال السياسي
الولاية كلمة لاتحمل معنى تسلطي استبدادي كما تصور البعض ، بل هي تعني وجود القدرة والإمكانية على الفعل والتسلط على امر ما ، وبما ان المفاهيم اللغوية مفاهيم نسبية تتبع مقامات الوضع أو الاستعمال وإرادة المتكلم بالإضافة إلى القرائن المحفوفة بالكلام ، مع ما يمكن ان يفهمه العرف الخاص من لسان الأدلة الشرعية ، فأن كلمة الولاية بحد ذاتها لايمكن ان يفهم منها السلطة المطلقة لصاحب الولاية ، الا انهم أرادوا ان يبرروا لأنفسهم هذه السلطة المطلقة من خلال تلك الولاية الخاصة للائمة المعصومين عليهم السلام التي منحها الله تعالى استثناءا لهم باعتبارهم حجج الله وأوصيائه . لذلك فان ولاية الفقهاء ليست كولاية المعصومين عليهم السلام بل هي ولاية محدودة ولاتملك الصلاحيات المطلقة في التصرف واتخاذ القرار ، أي إنها سلطة مضيقة ضمن أطر وقوانين معينة يلتزم بها ولي الفقيه ولا يستطيع ان يتجاوزها .فالولي يصدق على من له الولاية كالكريم الذي يصدق على ذو الكرم أي ان الولي من له السلطة على التصرف ولكن من أين حصل الولي الفقيه على هذه السلطة هل بالنص كالمعصوم عليه السلام أو بتوكيل المعصوم الخاص له أم ان هناك امر ثالث حصل من خلاله على تلك السلطة ؟
هذه التساؤلات يمكن ان تقودنا إلى معرفة ماهية السلطة التي يمتلكها ولي الفقيه ومن أين اكتسبها وبالتالي معرفة حدود هذه الولاية والسلطة ووظائفها
الروايات والأحاديث الشريفة ترشد الناس في حال عدم وجود الإمام المعصوم للرجوع إلى من تتوفر فيهم الشروط والمواصفات الخاصة التي ذكرتها تلك
 الروايات ،فعن الإمام العسكري عليه السلام : (من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامرمولاه فللعوام ان يقلدوه) . والمتيقن من إرجاع المعصوم عليه السلام الناس إلى الفقهاء هو الرجوع إليهم في الأحكام الشرعية وتحصيل الفتاوى المستنبطة من الأدلة الشرعية . وقد فهم البعض من هذه الروايات ان للفقيه سلطة وحكومة كتلك السلطة التي للإمام المعصوم عليه السلام أي ان الإمام عليه السلام فوض سلطته لمن بعده من الفقهاء الجامعين للشرائط . ويرفض البعض الآخر هذا الإطلاق في التفويض ويحدده ، يقول الشيخ الأنصاري في المكاسب : أما الولاية على الوجه الأول اعني استقلاله في التصرف فلم يثبت بعموم . ويقول الشيخ النائيني : المقصود من إثبات الولاية هو إثبات ما كان للاشتر وقيس ومحمد ابن ابي بكر ونظرائهم ، ولا أشكال في انه كان لهم إجراء الحدود واخذ الزكاة والخراج والجزية ونحو ذلك من الأمور العامة
ومن خلال مجموع معاني الروايات أراء الفقهاء في هذا يمكن استخلاص بعض الخطوط العامة التي ترسم أبعاد ومنهجية ولاية الفقيه :
أولا : ان هذه الولاية سلطة محدودة في إطار شرعي معين لايمكن للفقيه ان يتجاوزه ، يقول الإمام الشيرازي في كتابه الفقه البيع :لا ولاية للفقيه في التشريع الخارج عن الاطار الإسلامي إذ الأدلة لاتدل عليه والأصل العدم ..المراد من الولاية تطبيق الأحكام الأولية والثانوية على المصاديق التي يصل إليها نظر الفقيه الواحد أو شورى الفقهاء
ثانيا : ان هذه السلطة المحدودة ليست لفقيه واحد بل هي عامة لكل من تتوافر في الشرائط ، لذلك يقول بعض الفقهاء انه لا ولاية لفقيه على أي فقيه آخر الا في حالة شورى الفقهاء المنتخبة بالاقتراع الحر فانه يلزم على الأقلية التي ان تخضع لرأي الأكثرية لان أدلة الشورى تحكم أدلة التقليد ، أما ان يسيطر فقيه واحد على السلطة ويلغي سلطة الفقهاء الآخرين فهذا خلاف ما قامت عليه سيرة الإسلام والعلماء في التعددية وحرية الاجتهاد والفكر ، فلا أولوية لفقيه على الآخرين بعد ان جعل الشارع كلا منهم حاكما وبعد تساويهم في الشرائط . وإذا ادعى البعض ان وجود هذا الزخم من الفقهاء ولكل منهم له الولاية  يؤدي إلى الفوضى والنزاع فدرءا لذلك يحكم فقيه واحد ويفرض رأي واحد.. والجواب : انه لماذا رجح هذا الفقيه على الآخرين بدون وجود مرجح عقلائي ، وانه يمكن حل هذه المشكلة أما بالرجوع إلى الشورى وانتخاب شورى للفقهاء بحيث يقررون حسب رأي الأكثرية ، أو بانتخاب الفقهاء لفقيه واحد يقرر نيابة عنهم ، أو بالرجوع إلى رأي الأمة في انتخابها للفقيه بعد توفر الشرائط المناسبة للانتخابات الحرة ، وبالطبع فان شورى الفقهاء هي الحل الأنسب والأكثر واقعية في تحقيق التوازن الاجتماعي والحفاظ على مبدأ التعددية .
ثالثا : تنبع سلطة الفقيه وتتحقق شرعيا وعرفيا من خلال رافدين أساسيين هما كونه جامعا للشرائط التي قررها الشارع أي رضا الله تعالى ، والثاني هو رضا الناس وانتخابهم له كما نرى ذلك في الروايات مثل الرواية المروية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : ..ان يختاروا لانفسهم إماما عفيفا عالما ورعا..، فلا يمكن للفقيه بمجرد ان تتحقق فيه الشرائط ان يفرض سلطته وولايته على الناس بل لابد ان يختاره الناس ويفوضوه حق التصرف واتخاذ القرارات ، إذ ان الأصل في الانسان هو الحرية التي أسسها الشارع فطرة أكدها قولا وسنة ،  فتنازل الانسان عن حريته وسلطته الذاتية لابد ان يكون تابعا لرضاه وقبوله والا فانه لا تحقق لحريته على سطح الواقع أبدا . كما ان الشارع اقر سلطة الانسان على ماله ونفسه : الناس مسلطون على أموالهم وانفسهم.. لا يحل مال امرأ الا عن طيب نفسه ، وحينئذ لايستطيع الفقيه ان يتصرف في سلطة الآخرين ما لم يستجيزهم ويرضون بتصرفه ، وهذه الإجازة لابد ان تكون ابتداءا واستمرارا وليس فقط ابتداءا لان الفقيه المنتخب من قبل الناس كالوكيل يمكن للموكل ان يقرر سحب الوكالة أو إلغائها
رابعا : تدل الآيات القرآنية الواردة في باب الشورى على وجوب الشورى ولزوم العمل بها ، فالآيات أوجبت ذلك على الرسول (ص) مع انه لا يحتاج إلى الشورى لانه معصوم ، ولكن لأهمية الشورى أوجبها الله تعالى على الرسول (ص) ، فالاولى والاوجب على غير المعصوم ان يعمل ويلتزم بها لانه معرض للخطأ والغفلة خاصة في الأمور الخطيرة التي تتعلق فيها مصلحة الدين العليا وانفس الناس وأموالهم وأعراضهم . ويرى البعض من الفقهاء ان أدلة الشورى في باب ولاية الفقيه تدل على ان الفقيه لابد ان يكون بانتخاب الناس ففي الآية القرآنية : (وأمرهم شورى بينهم) هناك إطلاق في شمولها لكل الأمور خاصة الأمور الخطيرة والعامة ، وان الشورى تتقدم على ولاية كل فقيه على مقلديه في الأمور المشتركة والعامة حتى تتحقق هذه الآية القرآنية مصداقا بل أوجب واهم المصاديق ، حيث ان انفراد فقيه واحد بالولاية هو استبداد محرم ومرفوض شرعا كما قلنا سابقا ، وان انفراد كل فقيه لوحده في اتخاذ القرار سوف يؤدي إلى التمزق والتشتت وضياع الكثير من الحقوق باعتبار تداخل المصالح الاجتماعية وترابطها ، ولهذا فان شورى الفقهاء هي الحل الأمثل والأفضل والأكثر واقعية لمعالجة قضايا الحكم والقيادة . يقول الإمام الشيرازي في كتابه الفقه البيع حول مسألة شورى الفقهاء : (لزوم الشورى في المتعدد لان الشارع جعل كلا حاكما ولايكون نافذا رأي أحدهم بدون أراء البقية لعدم الأولوية فان كانت هناك أكثرية حيث ان معنى الشورى هو ذلك والافهو القرعة، وعليه يرجع كل عامي إلى مرجعه في المسائل الفردية كالصلاة والحج أما المسائل الاجتماعية التي تقررها الدولة فاللازم الأخذ بالأكثرية وان خالفت رأي مرجعه وذلك لحكومة دليل الشورى على دليل التقليد )
ومن هنا فان الولاية التي تعني السلطة الشرعية تتناقض مع الاستبداد وتتحقق مع الشورى ، حيث ان الشورى ترسخ شرعية السلطة جماهيريا عندما تفوض الأمة السلطات للفقهاء المنتخبين، وقياديا عندما ينعقد مجلس شورى الفقهاء
وتبقى هنا دعوة مفتوحة لمناقشة موضوعية في نظرية ولاية الفقيه وعلاقتها المبدئية مع الشورى وعدم إصدار الأحكام السريعة نفيا وإثباتا ، فبنظرة عميقة إلى الدلائل الشرعية والتاريخ والسيرة يمكن ان نحصل على البصيرة التي نرى من خلالها تلك الأسس التي يمكن ان ترسم لنا منهجا حيويا في الحياة ولكن بعد ان نجعل العقل وسيلة تفكيرنا لا العاطفة أو المصلحة 
 
 



 
 

 

ماذا نفهم من الشورى في الاسلام
 

يشكل الإقبال على المفاهيم الغربية وجعلها مصدرا أساسيا في الثقافة والفكر في الواقع المعاصر ، ويرجع هذا إلى سبب رئيسي وهو عدم التعمق في المفاهيم الإسلامية التي ذكرها القران الكريم في آياته . وبالتالي عدم استنباط الأفكار الحيوية التي يمكن ان تغذي ثقافة المجتمع الإسلامي بالكثير من الرؤى المنهجية . فمثلا مفهوم الحرية في الفكر الغربي اخذ حيزا واسعا من عقول مثقفينا بحيث جعلوه المثل الأعلى والمعيار الأساسي مع ان هذه الحرية (الليبرالية) هي ليست حرية واقعية بقدر ماهي فوضى تتجاوز الأخلاق والقيم وتدوس حقوق الغير وتطلق الغرائز الحيوانية (الوجوديون من أمثال سارتر) . ولو انهم بحثوا عن مفهوم الحرية في الإسلام بعمق لاكتشفوا الكثير من المعاني والرؤى التي تعطيهم أبعاد الحرية المسؤولة حرية الفكر والروح ، وحرية الفرد وسلطته على نفسه وماله وحقوقه ، والحرية في الإسلام تحرير الانسان لنفسه من طغيان الشهوات وجبروت الاستبداد ( لاتكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرا-أمير المؤمنين عليه السلام-)
والشورى أحد المفاهيم الأساسية التي غفل عنها المثقفين ولم يحاولوا استكشاف هذا المفهوم بسعة وعمق بعد ان اعتبروه مجرد حالة أخلاقية ينصح بها الإسلام المسلم في حياته الشخصية . وفي الاتجاه المعاكس رفعوا راية الديمقراطية التي هي عصارة الفكر الرأسمالي الغربي الفكر الذي يرى ان قيمة المال ومقدار الربح فوق كل شيء حتى الانسان الذي يدعي رواد الديمقراطية أنها في خدمته ومن اجل الحفاظ على حقوقه . وليس النقاش ألان في مفهوم الديمقراطية وسلبياتها(لاشك ان الديمقراطية تحمل بعض الإيجابيات وخصوصا إذا قورنت مع مساوئ الدكتاتورية) ، بل النقاش والبحث في مفهوم الشورى الذي يحتاج إلى التأمل في حدوده وأبعاده بتعمق بعيدا عن النظرة السطحية التي تسلب هذا المفهوم حقه من البحث والدراسة .  وحتى يمكن إعطاء رؤية موضوعية ومنصفة لابد من دراسة مفهوم الشورى كمفهوم بحد ذاته مع غض النظر عما تقوله الأدلة الشرعية من وجوب العمل بها  مناقشة لأولئك الذين فضلوا الديمقراطية الغربية
ليس المقصود هو النظر في لفظة الشورى وفهم معناها فهما أوليا ، وإنما المقصود فهم ما تستدره هذه الكلمة من معاني وأفكار وتثيره من اجتهادات وخصوصا المستنبطة من الواقع العملي مع غض النظر عن المعنى الحرفي الذي يمكن ان يضيق هذه الكلمة ويقيد تموجاتها ان توقفنا عندها تعبدا. فالشورى على الصعيد التطبيقي كلمة لها امتدادات واسعة يمكن ان تبني من خلالها نظرية متكاملة قادرة على تغذية الحاضر بالكثير من الرؤى والبرامج،بالاضافة إلى الآفاق التي تخلقها للمستقبل
في الوهلة الأولى يمكن ان يتصور اختصاص التشاور بين شخصين حيث يبني العقلاء على ضرورة ان يستشير الانسان العقلاء عندما يريد ان يقدم على امر ما ، وتتأكد الاستشارة في الحالات المهمة. ولكن الشورى لاتختص بالتشاور بين اثنين بل تعم ، إذ ان الغرض من التشاور هو تمحيص الآراء واستكشافها من اجل التوصل إلى افضل الحلول والصيغ ،لذلك كلما ازداد المتشاورون زادت فرص الحصول على الأفضل والاصوب . وإذا كان بناء العقلاء على التشاور في الأمور الخاصة ، فأن الأمر يصبح اّكد واكثر وجوبا عند هم إذا تعلق الأمر بالمصالح العامة التي يشترك فيها الآخرون ،  وحينئذ فلايستطيع أي شخص ان ينفرد باتخاذ قرار ما لوحده ا لا إذا حصل على تفويض من الآخرين بالتصرف :(كل شيء يرتبط بشؤون الأمة لابد فيه من الاستشارة..انها تكون بمال الأمة ولايحق لأحد ان يتصرف في مال غيره الا بإذنه.. -الشورى في الإسلام للإمام الشيرازي-)
وبما ان الشورى ترتبط ارتباطا أساسيا بالمصالح العامة،حيث يمكن ان تضمن الحفاظ عليها وعدم ضياع حقوق الناس فإنها تمثل المقياس في تحقق العدل والإنصاف بين الناس وترسم النظام الذي يستند إليه المجتمع في عملية التوافق الاجتماعي وعدم حصول إجحاف أو ظلم بحق الآخرين ، فالشورى تعني حينئذ الحفاظ على المصالح العامة وتحقيق العدالة في جميع الجهات
الشورى هو منهج للبحث عن الحقيقة عبر عملية طلب الرأي من الآخرين ، فالإنسان بطبعه محدود الفكر وغير قادر على رؤية كل جوانب الموضوع،لذلك فانه يرى بعض الجوانب حيث تدفعه اتجاهاته الذاتية ونوازعه النفسية للتركيز عليها فقط دون الجانب الاخرى.ان ماتصنعه الشورى هو استكشاف جميع جوانب الموضوع وخوافيه بجمع الآراء وغربلتها للوصول إلى الأصح والأكثر صوابا،لذلك تمثل الشورى طريقا مثاليا للوصول إلى الواقع،اي إنها تشكل المنهج الأقدر في تحقيق التوازن الفكري والاجتماعي والسياسي بكونها المعيار الذي يحتكم إليه المجتمع في عملية الفصل بين الآراء المتنازعة والحقوق المتعارضة
الشورى تعني الحرية فلكي تتحقق الشورى عمليا لابد من وجود الحرية والقدرة على الاختيار،لذا فأن الحرية تشكل البناء الأساسي الذي تعتمد عليه الشورى ،فلايمكن ان تتم مداولة الآراء وتحاور الأفكار مالم يتمتع الرأي المشارك بعملية الشورى بحريته الكاملة في إبداء رأيه ومناقشة الأفكار الاخرى،والا فأن الشورى تفقد قيمتها الأساسية وتصبح عبثا ولغوا.فهي مفهوم لايتحقق من دون تحقق الحرية بشكل عملي ،والالتزام بها يعني الالتزام بالحرية والالتزام بالحرية التزام بالشورى فهما أمران متلازمان لاينفكان من ناحية المصداق الخارجي وان كانا متفارقان مفهوما
ومن هنا ينبثق من مفهوم الشورى معنى آخر وهو ذلك التضاد الحاصل مع مفهوم الاستبداد،الذي يعني تحكيم الرأي الواحد والاستغناء عن الآراء الأخرى وان استلزم ذلك الإكراه والإجبار على الخضوع لهذا الرأي المستبد.لذلك فهما أمران لايجتمعان فلايمكن وجود شورى مع سيطرة وتحكم الرأي الواحد، إذ ان مفهوم الشورى يعني تعدد الآراء وتنوعها واختلافها وتعارضها.وبعبارة واضحة فأن مايمكن ان نفهمه من الشورى هو أنها تعني الحرية والتعددية
أحد المعاني الجوهرية التي يصوغها لنا مفهوم الشورى هو قدرة هذا المنهج على امتصاص النزاعات واحتواء أي تصادم يمكن ان يحصل بسبب اختلاف الآراء وتعارضها.وما يفعله منهج الشورى تنظيم هذا الاختلاف وفق قواعد أسس توفر المشاركة السليمة واللعبة العادلة . وبدون الشورى أما ان يتحول الاختلاف إلى فوضى تؤدي العراك أو استبداد يعمق النزاعات ويوسع الشروخ ، لذلك نرى ان التنازعات تنشئ من الأجواء  والمجتمعات التي لاتملك سعة الصدر اللازمة في تحمل الآراء المعارضة ولاتستطيع ان تدخل في لعبة مداولة الأفكار وتنوعها . فليس الانفتاح أمام تعدد الأفكار يعني خلق أزمات التصادم ، بل هو الانغلاق الذي يستبيح الرأي الآخر ويخنقه لانه حينئذ يحرم الانسان من ابسط حقوقه الفطرية المشروعة وهو اختياره الحر في إبداء رأيه والتعبير عن ذاته . وعندما لايجد المساحة الكافية للتعبير عن رأيه بصورة سليمة تبرز اتجاهاته العنيفة والتصادمية في محاولة لإبراز ذاته . ولكن منهج الشورى يبرمج عملية التنوع والتضاد بأسلوب منظم يحول الاختلاف إلى طاقة إيجابية وروح تنافسية بناءة ، فتكون الشورى صمام الأمان الذي يحمي المجتمع من التفكك والانشقاق وتقوده نحو التماسك والوحدة والتضامن بعد ان يتحول كل إنسان ينشأ في ظل هذا المنهج إلى إنسان مسؤول يكافح بقوة من اجل حماية الآخرين والدفاع عن أفكارهم ، لانه يشعر حينئذ بأنه يدافع عن نفسه وفكره وحقه. الشورى بعبارة ملخصة تعني التنافس البناء..الوحدة والتضامن..تعلم المسؤولية
وقد يفهم من الشورى أنها النهج الأفضل القادر على استثمار الطاقات واستيعابها وإدارتها بشكل متميز وناجح ، لان الشورى تعني ان الأولوية للمجموع الذي ينطلق في سبيل الصالح العام ، وبهذا تأخذ الطاقات المتنوعة في مواهبها وقدراتها الحيز المناسب في استغلال فعالياتها، ولذلك تتألق الطاقات الإنسانية في ظل الشورى وتنبعث مواهبها الذاتية الضامرة وتنمو ملكة الإبداع والابتكار لتخلق حركة إنسانية متقدمة نحو القمة والعلو والرقي . وهذا مالا تستطيع الحركة الفردية ان تقوم به ، لأنها تحتكر القرار وتستفرد بالرأي لذلك لاتسمح الا بالطاقات التي تخضع وترفع راية الولاء المطلق لها ، وتستبعد الطاقات التي قد تحمل آراء تختلف عن آراء القيادة العليا . فتكون الحسابات وفق ميزان ذاتي وفردي يرتكز على مبدأ الولاء لا الكفاءة ، لذلك يلاحظ التمييز والاستبعاد في هكذا أجواء وصعود أفراد لايملكون المستوى الحقيقي على حساب الكفاءات الواقعية . وتؤدي هذه الحالة إلى خمود الطاقات وضمور المواهب واندثار الإبداع والتوهج ، وفي المقابل تنمو حالات الرذائل والسلبية والنفاق والنميمة حيث تتحول أجواء الفردية والاستبداد إلى مستنقع قابل لكل عوامل الفساد والانحطاط
ولاتملك الإدارة الفردية القدرة على الاستمرار ، لأنها تستغني عن طاقات الآخرين أو لاتستطيع ان تستثمرها وتكتفي بتحركها الفردي المحدود والذي يتوقف سريعا وينتهي بعد ان استنزف الكثير من الموارد وضيعها . ولكن في الشورى تملك الإدارة الجماعية كافة مقومات الاستمرار والتطور لأنها إدارة منبثقة من عمل جماعي منظم خاضع لأصول مداولة الآراء ومناقشتها فهي تمثل المجموع وتقسم الأدوار وتحدد المسؤؤليات وفق واقعية الكفاءات ، لذلك يمكن القول بان الشورى هي منهج الإدارة غير المباشرة التي تعتمد على أسلوب تفويض الأدوار
وتبقى هنا حقيقة أساسية يفرزها هذا المفهوم وهو ان الشورى عمل العقلاء من اجل تجنب الوقوع في الخطأ بأقل قدر ممكن ، وهذا الأمر يجري كلما تصاعدت أهمية الشيء وزادت خطورة الخطأ فيه، لذلك يحتاطون فيه كثيرا ويجرون المزيد من المداولات للوصول إلى اصح الآراء وأكثرها بعدا عن نسبة الخطأ-هذا الأمر نراه عند الأطباء إذا توقفت حياة المريض على أجراء عملية جراحية خطيرة قد تودي بحياته- . ويشكل النظام السياسي الحاكم أعلى المستويات الاجتماعية وأخطرها على الإطلاق لانه هو الذي يرسم حدود كافة المستويات الاجتماعية ، فالنظام السياسي هو القمة التي تخطط وتقرر للتحرك والسلوك العام . لذلك فان نسبة الوقوع في الخطأ تؤثر بنحو حتمي وإجباري على كافة الجوانب الأخرى، فقرارات الحرب أو السلم يمكن ان تترك آثارا سلبية معكوسة لو اتخذت بالأسلوب والنهج الفردي لان القرار الفردي يكون اقرب إلى الخطأ نسبة لحساب الاحتمالات وهنا تكمن الخطورة .وتفرض الشورى واقعيتها العقلائية على النظام السياسي وتحدد الهيكل العام وفق ماينبثق منها من خطوط عامة ترسم المنهج الذي يجب ان يسير وفقه ، وهي بذلك ليست مجرد أداة سياسية يستخدمها السياسي عند الضرورة ، بل الشورى نظام أساسي يقنن التحرك السياسي العام بحيث تعبر كل القرارات والخطط من خلال قنواته الخاصة ، لان عملية الابتعاد عن الخطأ لاتتم ألا عندما تصبح الشورى المحور الذي تتمخض منه أشكال الحركة السياسية . وهذا يعني ضرورة وجود تنظيم اجتماعي وأرضية ثقافية تهيئ الأجواء لتطبيق مفهوم الشورى بشكل صحيح وسوي لان التطبيق السيئ والمغلوط يشوش هذا المفهوم ويشكك في مصداقيته الخارجية .
ان الشورى كمفهوم بحد ذاته مفهوم شمولي يملك الكثير من الإشعاعات المعنوية والانعكاسات الفكرية التي يمكن ان تغني الواقع الإسلامي وترفده بالثقافة والفكر بحيث تعطيه الاكتفاء الذاتي لبناء هيكليته الحضارية والاستغناء عن الثقافة الغربية بكل ماتحمله من سلبيات لاتتلائم مع واقع الحياة بل تزيد من تأزم العالم الإسلامي ومشاكله
 



 
 
 
 
التعددية في المفهوم الاسلامي
 

ما أحوجنا اليوم إلى ترتيب أوضاعنا ونحن نترك القرن العشرين وراءنا وندلف إلى القرن الواحد والعشرين،وقد خلفنا وراءنا ركام تاريخي كبير من الماسي والمحن التي كتبتها بالدم والدموع أيادي الاستبداد والحرب والتبعية، فهل نسحب وراءنا أذيال السلبية نحو مستقبلنا الآتي لكي تصبح عمقا تاريخيا  متجذرا قد اعتدنا عليه
أحد أهم الآفاق التي تسطع في سماء آمالنا وأحلامنا هو التعددية كمنهج ونظام سياسي واجتماعي وفكري نفتتح به صفحات مستقبلنا القادم وحياتنا الجديدة،فالتعددية ليست الاّ ذلك الإرهاص الذي يدغدغ أفكارنا باستمرار باعتبارها المؤسسة القادرة على استئصال مرض الاستبداد والفردية
والمشكلة الأساسية التي لازالت عالقة في وعينا اللاشعوري هو التمسك الأناني المفرط وانغلاقنا الذاتي المركزي الحاد وعدم وجود الانفتاح الاجتماعي المرن مع العالم الخارجي،وكان الوحدة التي ترسمها مخيلتنا هي نفس الوحدة التي يجب ان تحكم العالم.كل ذلك التمحور الشديد هو الذي افرز أخلاقيات التعصب والاستبداد والتطرف والعنف والحرب
وإذا كان الانسان يعتقد بظلامته الداخلية ان الخارج لابد ان يركع لتطلعاته الأنانية فان الكون بعظمته وكبرياءه خلقه الله وفطره على التنوع والتعدد والتغاير،فلا ثبات ولا وحدة في الزمان والمكان والأشخاص.هذا التعدد التكويني هو الذي جعل الكون والأرض بهذا الجمال المتنوع الخلاق،فالخلاقية والإبداع والجمال تنبع من التفاعل التعددي بين عناصر الكون ومكوناته وثمرة لذلك الامتزاج الحيوي بين التباينات المتضادة التي تتداخل مع بعضها مكونة ذلك الإنتاج العظيم
وإذا كانت المخلوقات الجامدة تتألق في الإبداع عندما تتنوع وتعدد فان الانسان الذي يمتلك روحا حية وعقلا دافقا وفكرا شعوريا يرتكز في أساسه وتكوينه على التعدد والتنوع حتى يستطيع التكامل والتصاعد عبر التفاعل العقلي والروحي.ان العلة الغائية من خلق الانسان يمكن ان تنتفي مع انتفاء التعدد لانه يعني انتفاء الحرية والاختيار،والقول بوحدة الوجود كما يقوله بعض الفلاسفة يعني سلب حرية الانسان عبر اندماجه القهري واضمحلاله الجبري في منظومة واحدة غير متجزأة، ولهذا فان مبدأ وحدة الوجود ليس الا تعبير واضح عن تلك المحورية الذاتية الذي يبحث دعاتها عن المبررات الفلسفية لإلغاء الآخرين ودمجهم في منظوماتهم الذاتية المتمركزة
التعددية في القران
ولكن القران الكريم يقف بقوة أمام دعاة الفردية بمجموعة من الآيات القرآنية التي تشرح التكوين التعددي الذي ابتنت عليه حياة الانسان تكوينا وتشريعا واجتماعيا وسياسيا وفكريا،يقول تعالى في محكم كتابه الحكيم:{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات}المائدة 48،وفي هذه الآية هناك ثلاثة معاني يمكن ان يفهم منها مفهوم التعددية،الأول ان الله تعالى لم يخلق الناس أمة واحدة بل خلقهم أمم وجماعات متعددة مختلفة،والثاني ان فلسفة الابتلاء والامتحان قائمة على مبدأ التعدد الإنساني والاجتماعي فلو لم يكن هناك تعددية لبطلت حكمة الامتحان والتكليف،والثالث ان هدف تعدد الأمم يبتني على تلك المنافسة الإيجابية التي جعلها الله وسيلة لوصول الانسان إلى الخير بل واستباقه بالوصول إليه قبل الآخرين،وهذا يعني ان خير الانسان يعتمد على مبدأ التعددية وأيضا ان التكامل الإنساني وارتقاءه لمراتب الخير التي لا تنتهي يكون عن طريق المنافسة المتعددة فهنا التعددية وسيلة للارتقاء والتكامل.
ويقول تعالى أيضا:{يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم}الحجرات13،والآية قد تشير إلى هذا المعنى انه كما ان البقاء الإنساني قائم على التعدد البيولوجي الذي يشكله الذكر والأنثى وكذلك فان نمو الحضارة الإنسانية وتكامل المجتمعات والجماعات يعتمد على التعددية الاجتماعية والسياسية
التعددية نظام وليست فوضى
تختلف التعددية في إطارها الإنساني عن إطارها التكويني أنها خاضعة تحت إرادة الانسان واختياره فقد يتخلى الانسان عن هذه المنحة الإلهية وينصهر تحت إرادة الاستبداد والخوف والاستعباد،وقد يستغل هذه النعمة الإلهية لصالح إثارة الفوضى والنزاع والحرب وهذا هو الذي يحول التعددية إلى تنافر خارج عن التنظيم السليم الذي تستحقه.فكما ان جمال التعددية في الكون والطبيعة ينبعث من كونها تشكل بأجزائها المختلفة نظاما منسقا ليس في تنافر سلبي،فكذلك الانسان لايستطيع ان يحول التعددية إلى تكامل إيجابي مالم تصب في إطار منظم يعتمد على مجموعة قوانين يلتزم بها أولها القبول بمبدأ التعددية كمبدأ أساسي يعترف بها كل المشاركين في إطارها.وإذا كانت التعددية قد خلفت دمارا كبيرا في أفغانستان إذ أدت إلى اشتعال تلك الحرب الأهلية المدمرة فلأن المتحاربون لا يقبلون بمبدأ التعددية من أساسه حيث يسعى كل طرف إلى إلغاء الآخر وإزالته والتفرد بالأمر لوحده.وكما يقول موريس ديفرجيه فان الأحزاب المتنافسة لابد ان تبقى متفقة على المبادئ الأساسية للنظام السياسي بحيث لا تتجادل وتتنازع حول الاطار الديمقراطي وحق كل واحد في التعبير عن رأيه بحرية وضرورة الانتخابات الحرة فكل حزب يقبل قاعدة اللعبة التي تتيح لهم جميعا البقاء ولا يمنع الاختلاف في المعتقدات والبنية التحتية الاجتماعية الأحزاب من التعايش معا
وفي الجانب الآخر فان النظام الاجتماعي يصبح اكثر قابلية للانفراط عندما تختفي التعددية من وجودها السياسي والاجتماعي بالقوة والإرعاب لتزول حينئذ عناصر الحركة الإنسانية فكرا وإنتاجا وإبداعا وبالتالي تختفي حركة التكامل والنمو.وإذا كانت بعض النظم الاستبدادية تستشعر بعض الهدوء الا ان جهودها في إلغاء التعددية يجعلها في النهاية عرضة لعدم الاستقرار وكلما زادت فترة الفراغ التنظيمي كلما أصبحت الأوضاع اكثر قابلية للانفجار،لذلك رأينا كيف انقلبت الأوضاع في إندونيسيا وانفجر الوضع اقتصاديا وسياسيا عندما عجزت الفردية والاستبدادية عن خلق النظام السياسي المستقر.ومن هنا فان التعددية الحزبية هي افضل منهج لخلق النظام السياسي الآمن وإيجاد التنظيم الاجتماعي المتوازن.فعلى سبيل المثال يرى البعض ان وجود نظام تعددي حر في العراق يعطي الحرية لكافة الأحزاب والطوائف والقوميات في ممارسة حرياتها والتعبير عن مصالحها سوف يؤدي إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات،ولكن هذا ليس الا مغالطة يحاول البعض من خلالها الإبقاء على الحكم الديكتاتوري الذي حكم العراق في العقود الأخيرة بالإرهاب والإرعاب والحديد فلم يحصد الا الحرب والموت وتشريد الملايين وسجن الآلاف الذين لا يزالون قابعين في اعماق السجون الرهيبة،وهذه هي سمات الحكم الآحادي الشمولي الذي يهاب المعارضة ويرفض كل أشكال الحكم التعددي.والحال ان محنة العراق لا يحلها الا وجود نظام تعددي يقبل به الجميع كقاعدة تحتية وقانون أساسي تتعايش فيه جميع القوى والأحزاب وتمارس مداولة الديمقراطية بنزاهة وواقعية.وفي هذا المجال يرى صمويل هنتينجتون ان المجتمع الآخذ في التحديث غالبا ما يكون مجتمعا تعدديا يشتمل على تجمعات دينية وعنصرية وعرقية ولغوية متعددة وتلك الجماعات أما ان تستوعب في النظام السياسي واما ان تصبح مصدر للعداء والثورة ضد النظام ولذلك فان اندماج هذه التجمعات وتكاملها سياسيا يستلزم الدمج الأفقي للجماعات والاستيعاب الرأسي للطبقات الاجتماعية والاقتصادية، ويؤكد هنتينجتون ان تحقيق الاندماج والاستيعاب لايتم الا عبر الوسائل المؤسسية الرئيسة لتنظيم اتساع المشاركة السياسية عبر الأحزاب السياسية والنظام الحزبي وان تقليل احتمال عدم الاستقرار السياسي يستلزم خلق مؤسسات سياسية حديثة أي أحزابا سياسية.ومن هنا فان هنتينجتون يرى ان التعددية تصبح ضرورة لاستيعاب التناقضات السياسية والقومية والفكرية خصوصا عند ارتفاع مستوى الوعي والانغماس السياسي لتحقيق مستوى من الاندماج السياسي والاجتماعي بين مختلف الفئات لهذا تتوسع التناقضات وتتراكم الفجوات بين الطبقات والقوى الاجتماعية في الأنظمة الاحادية والشمولية وبالتالي تكون من اكثر الأنظمة هشاشة واضطرابا
تعدد الأحزاب
يشكل نظام تعدد الأحزاب المظهر الرئيسي لمفهوم التعددية،وبعبارة أخرى فان وجود نظام الأحزاب المتعددة يكشف عن وجود تعدد القوى والقدرات،وبمقدار ما تمارس الأحزاب أدوارها بفاعلية وحرية يتوسع التنافس والتعدد بشكل اكبر.لذلك يمكن القول ان النظام الذي ليس للأحزاب فيه دور أو توجد أحزاب ضعيفة تقتات الفتات من النظام الحاكم هو نظام آحادي،ولكن النظام ذو الحزب الواحد الحاكم مع أحزاب هامشية ليس الاّ تكييف تقني للديكتاتورية المتولدة في إطار ديمقراطي كما يرى ذلك ديفرجيه في كتابه الأحزاب السياسية.
ويرى الإمام الشيرازي ان نظام تعدد الأحزاب هو النظام الأمثل لتحقيق المجتمع المثالي والمستقر حيث يقول سماحته في كتابه الفقه السياسة:ان الأحزاب السياسية المتعددة تسبب للجماهير تنسم الحرية والتعبير عن آراءها وإبداء رغباتها والوصول إلى أهدافها.. كما يرى سماحته ان الناس في مثل هذه الأنظمة يصلون إلى أهدافهم وحاجاتهم وذلك لان الحزب يعمل جاهدا لاعطاء حاجة الناس لئلا ينفرط منه أحد إلى الحزب الآخر فهو نوع تنافس يسبب ظهور الكفاءات ودرء المظالم
الحزب الواحد والواحد بلا حزب
وفي الجانب الآخر يرى دعاة الاحادية والفردية ان التعددية وتعدد الأحزاب ما هي الاّ شرورا تقود المجتمع نحو الانقسام والتفكك لذلك فان حزب واحد قوي يوحد البلاد  افضل بكثير من مجموعة أحزاب متنافرة ضعيفة.يذهب البعض إلى ابعد من ذلك حيث يرفض مسألة الحزب من أساسها ويعتبره وكرا للآثام والمؤامرات ويدعو إلى صب المجتمع في طبقة واحدة.وبهذا يبتعد دعاة هذا الاتجاه  القوانين الكونية والمنطق العقلي ليقعوا في مغالطات وشبهات لم يستطيعوا حلها.ويلخص ديفرجيه العقيدة الشيوعية حسب المعادلة القياسية المنطقية التالية:أ- كل حزب هو التعبير السياسي لطبقة اجتماعية.ب- وبما ان الاتحاد السوفيتي هو مجتمع ذو طبقة واحدة،النتيجة:ان الاتحاد السوفيتي لايمكن ان يعيش الاّ في ظل نظام الحزب الواحد.ويستنتج ديفرجيه قائلا بان هذه المعادلة تشوه الحزب الشيوعي لأنهم يدعون انهم مجتمع بلا طبقات إذن لابد ان لا يكون في الاتحاد السوفيتي أي حزب سياسي بما فيها الحزب الشيوعي.وهذا التناقض المنطقي والعقلي هو الذي يحرج بشدة كل الأنظمة الاحادية والشمولية لهذا تستخدم القوة والإرهاب لقمع كل أنواع المعارضة.وبالقراءة التاريخية البصيرة يمكن ان نصل إلى هذه الحقيقة وهي ان إلغاء الأحزاب يقود نحو حكم الحزب الواحد الذي يقود بدوره نحو الحكم الشمولي التوتاليتاري الذي يعني حكم الفرد المطلق إذ يخضع كل شيء تحت السلطات المطلقة لفرد واحد يفعل ما يشاء مثل ما فعل ادولف هتلر
نعم قد يكون في النظام التعددي بعض البطء والتردد في اتخاذ القرارات وحسم المشكلات نتيجة للامركزية الحاكمة الا ان هذا الأمر ليس بعيب بل هي ميزة إيجابية تحسب للنظام التعددي باعتباره اقدر على تنضيج القرارات واكثر حكمة من الاستعجال الانفعالي في حل المشكلات.ولكن العيب الرئيسي هو في تلك الأنظمة الاحادية والتسلطية التي تحكم من أبراج عاجية بعيدا عن الجماهير وتطلعاتها لأنها ليست في حاجة إلى رأي الشعب وانتخابه بل تكفيها تقارير البوليس الحديدي التي تفرض ستارا حديديا بين الحاكم والمحكوم وتكتفي أيضا بالاتباع الذين يكيلون المديح ليكونوا من بطانة الحاكم ،ولكن التعددية تفرض على الأحزاب النزول الجماهير ومعرفة آراءهم والتثبت دوريا من مواقفهم لكسبهم في الصناديق الانتخابية وبذلك يكونون على اتصال دائم بالجماهير وحاجاتها
الوحدة والتعددية
يشكل البعض بان التعددية هي طريق لشق الصف وتفكيك القوى وهذا خلاف ما يأمر به الإسلام من الوحدة والاتحاد
يمكن ان يكون هذا الفهم السطحي لمفهوم الوحدة في الإسلام مدخل تبريريا لضرب المعارضة والتفرد بالسلطة.ولكن بالتأمل الواعي البسيط يمكن عكس هذا المنطق والقول بان التعددية هي طريق لبناء الوحدة الدينية والوطنية لأنها تعطي المجال لكافة القوى في ممارسة حرياتها في إطار النظام والقانون الذي تعاقدت عليه ويبقى الاختلاف في فروع تتنوع فيها الاجتهادات وتتعارض فيها بعض المصالح التي لا تتجاوز المصلحة العامة والأمن الجماعي لذلك نرى في الأنظمة التعددية والديمقراطية ان الوحدة الوطنية تكون قوية عندما تتعرض البلاد إلى أزمة أو اعتداء.أما الاحادية فهي الطريق الذي يقود حتما إلى التفكك والتفرق والاتحاد السوفيتي هو شاهد حي وقريب عن ذلك فعندما ألغيت جميع القوى والأحزاب خضعت البلاد تحت تسلط نخبة حكمت حسب ما تشتهي لاحسب المصالح العامة حتى تعرضت لذلك الانهيار الكبير
ان التعددية لا تقود نحو الوحدة المتماسكة فقط بل أنها تؤدي بالنتيجة عند استثمارها بالشكل السليم إلى ترسيخ منهج متكامل على كافة الأصعدة،فمن جهة تستطيع المؤسسات الدينية أداء دورها الإصلاحي والأخلاقي في المراقبة والتوجيه والقيام بعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ومن جهة أخرى ينمو الوضع الاقتصادي على وتيرة تصاعدية نتيجة التنافس بين المؤسسات الاقتصادية في الإنتاج والاستثمار.وكذلك فان التعددية تحقق الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي لان التبعية تغل البلاد بأغلال الاستعمار عندما يلجأ النظام الاستبدادي والاحادي بالقوى الطامعة لإسناد سلطته في مقابل الجماهير المضطهدة.على ان أهم مردود تحققه التعددية هو التنوع الثقافي الذي تنبع من خلاله كافة انهار الإبداع الإنساني والخلاقية الفكرية، ولم تستطع الحضارات ان تبني شموخها الا عندما تدفقت الأفكار والرؤى التي غذتها بالروح والحركة والطموح
 
 
 
 


 
 
 
اضغط هنا لتذهب الى الصفحة الرئيسية
 
 


 
 
 
للاستفسار عن الاسئلة الدينية والشرعية والثقافية يرجى الاتصال على البريد الالكتروني 
E-mail:  masael@hotmail.com
  
you can read this page only with arabic font
also you can read it better with sindbad or arabic netscape