عقيدة الثالوث
عن حديث للأب جان بهر (عميد كلية القديس فلاديمير اللاهوتية
الأرثوذكسية)[1] لقد اجتزنا للتو عيد العنصرة، أحد أكبر أعياد السنة، و هذا جعلني أفكر بالثالوث إذ أني تلقيت منذ أيام تقريراً عن كاهن أرثوذكسي في روسيا اعتنق الإسلام وقد جعلني ردّه عند سؤاله لماذا لم يعتنق مذهباً مسيحياً آخراً أشعر بحزنٍ عميق. هذا ما قاله: "فرضت على نفسي مهمةً معينةً و هي فهم عقيدة الثالوث. قرأت بعض الكتب الجيدة و تكلمت مع بعض الأشخاص الأذكياء المؤمنين بها. إلاّ أن أيّاً من بحوثي لم يساعدني على فهم عقيدة الثالوث المسيحية. عندما كان أعضاء من رعيتي يسألونني ما هو الثالوث كنت أضطر على الإجابة بشيء، فكنت أقول لهم هو الله الآب و الله الابن و المحبة التي بينهما هي الروح القدس، إلاّ أني لم أكن أؤمن بهذا أو أفهمه". إنه لمن المؤسف حقأً أن تشكل عقيدة الثالوث عقبة للمسيحي المفكر، أعتقد أن السبب وراء ذلك هو الطريقة التي تُعرض فيها هذه العقيدة. فهي عادةً تُعرض على أنها سرٌّ لا يمكن فهمه، كيف أن الثلاثة واحد و الواحد ثلاثة. القديس بولس الرسول يوصينا أن نتمسك بصورة الكلام الصحيح (2 تيمو1:13) لكننا غالباً ما نتمسك بصورة الكلمات المألوفة دون أن نفكر فيها فعلياً ، أو في أصول نشوئها. ما أعنيه هنا ظاهرٌ من خلال محاولة الكاهن تفسير عقيدة الثالوث. الجواب الذي أعطاه هو: الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس. لقد أصبحنا معتادين كثيراً على استعمال "الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس" الله الثالوث الذي هو واحد و ثلاثة، دون أن ننتبه إلى أن هذه ليست لغة الكتاب المقدس و لا لغة الآباء الكبار و لا لغة ترانيمنا، على الأقل بصيغتها الأصلية و إن تُرجمت أحياناً كذلك. القديس باسيليوس الكبير في القرن الرابع ألف كتاباً يُدعى "في الروح القدس"، و في بداية كتابه يقول بأن أول خطوة نحو القداسة تكون في الانتباه إلى كيفية استخدام الكلام في الكتاب المقدس. في الواقع يمكننا القول أن كامل ذلك الكتاب هو بحث حول كيفية استخدام أحرف الجر في الكتاب المقدس، كلمات مثل من، إلى، و لـِ. و يقول أيضاً "إن المتكاسلين في السعي وراء البر يعاملون التعابير اللاهوتية كأنها ثانوية في الأهمية و كذلك البحث عن أي معنى خفي في تلك العبارة أو ذلك اللفظ، لكن أولئك الواعين لهدف دعوتنا يُدركون أن علينا أن نتشبه بالله على قدر ما تسمح لنا طبيعتنا البشرية. لكننا لا نستطيع التشبه بالله دون أن نمتلك معرفةً به ومن دون دراسةٍ لا توجد معرفة. التعليم يبدأ بالاستخدام الصحيح للكلام، بالألفاظ و الكلمات التي هي مكونات الكلام". فما أقترحه هو الانتباه بدقة إلى كيف يتكلم الكتاب المقدس و كيف يتكلم الآباء و الترانيم مُلحَقين بالكتاب المقدس. و إن كان هناك داعٍ يتوجب علينا أن نصحح صيغة كلامنا، و إن فعلنا ذلك نكتشف بأن الكلام عن الثالوث ليس محاولة عقيمة للتوفيق بين الواحد و الثلاثة، و هو بالتأكيد ليس عقبة للإيمان. لنباشر من البداية: الرسول بولس يقول بكل وضوح أن لنا إله واحد الآب، و رب واحد يسوع المسيح (1 كور 8:6). هذا أمر أساسي و قد حُفظ في كل دساتير الإيمان القديمة: أؤمن بإله واحد الآب، و برب واحد يسوع المسيح. الإله الواحد، العلي، عزيز إسرائيل، إله ابراهيم و اسحق و يعقوب، هوالواحد الذي يخاطبه يسوع المسيح كأب و هو الواحد الذي نحن أيضاً بتبنينا في المسيح بقوة الروح الساكن فينا ندعوه "أبانا" حين نقول الصلاة الربية. هذا هو الواحد الذي تخاطبه صلوات الأنافورا للقديسين باسيليوس الكبير و يوحنا الذهبي الفم. لا مجال للغموض هنا، فنحن لا نؤمن بإله واحد الثالوث: "الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس." لا يمكنك أن تعرض كلمات دستور الإيمان بهذا الشكل، فهي تقول بإله واحد الآب، و برب واحد يسوع المسيح، و بالروح القدس. إذا دعى يسوع المسيح الله أبا، فهذا لأنه ابن الله. و لا يمكن أن نقلب هذا التعبير و نقول الله الابن. هو ابن الله. كابنٍ هو كأبيه في كل شيء دون أن يكون الأب بنفسه. هو كما يقول دستور الإيمان "إلهٌ حق من إلهٍ حق." في اللغة التقنية المستخدمة في دستور الإيمان هو "من ذات الجوهر مع الآب". القديس أثناسيوس الكبير الذي ساهم أكثر من غيره في تكوين الأرثوذكسية النيقاوية يفسر هذا التعبير"من ذات الجوهر" بقوله أن كل ماقيل في الكتاب المقدس عن الله يقال الآن عن ابنه يسوع المسيح عدا كونه الله الآب. فالآب هو أبو يسوع المسيح، المسيح كامل في أنه إلهٌ حق من إلهٍ حق لدرجة أنه يُدعى إلهاً في العهد الجديد، فمثلاً عند لقاء المسيح القائم توما يصرخ "ربي و إلهي". أحد النقاط الهامة التي يعلّمها القديس أثناسيوس تستند على كلمات المسيح نفسه في بشارة يوحنا: "ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي" (يو 14:6). ليس لنا مدخل إلى الله إلا من خلال ابنه يسوع المسيح. هذا مماثل في الواقع إلى أنه فقط عندما يباشرالمسيح القائم بشرح الكتاب المقدس يبدأ التلاميذ بفهم عمّن يتكلم الكتاب المقدس. بتعبير آخر، لا يمكننا فهم الله بأي شكل آخر إلا بكونه أبا ربنا يسوع المسيح، ابن الله، الإله الحق من الإله الحق. ليس هناك مجال، منطقياً أو زمنياً، للحديث عن الله بدون ابنه يسوع المسيح. لا أحد يأتي إلى الآب إلا بيسوع المسيح. كما يقول الرسول: "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (كولوسي 2:9)، و هذا يعني أنه لا توجد بقية أو فائض من الألوهة في مكان آخر لتُكتشف أو يُعبّر عنها بطريقة أخرى. فقط بالنظر إلى المسيح نرى من و ما هو الله. هذا أمر أساسي، فهو يجبرنا على معاينة الله كما كشف نفسه لنا من خلال ابنه يسوع المسيح بقوة الروح القدس (سأتكلم عن ذلك في الشهور المقبلة). هذا يعني أيضاً أننا لا نستطيع الدعاء إلى الله دون المسيح و الروح، و لذلك في الأنافورا الكبيرة للقديس يوحنا الذهبي الفم لدينا العبارة المتكررة "أنت و ابنك الوحيد و روحك القدوس." كلمة "أنت" هنا مُوجّهة لله الواحد، و هذا الإله الواحد هو الآب، فهو أبو الابن يسوع المسيح المعلن لنا بالروح. الابن و الروح جوهريان لله لكونه الآب. الله ليس وحيداً، و هو ليس بدون ابنه الأزلي و روحه، و هما إلهيان من ذات ألوهة الآب تماماً. أما الروح، فمع أنه لا يُدعى إلهاً في الكتاب المقدس، كل الآباء علموا أن أفعال الروح في المؤمنين كالتبنّي و القداسة و الخلاص و الإحياء هي خصائص إلهية، فهو حقاً إلهيّ. هذه الامور لا يمكن أن تتحقق عن طريق شخص هو نفسه نال القداسة أو الخلاص. فكما يوضح الرسول، فبالروح الذي أقام المسيح من بين الأموات نحن أيضاً نستطيع أن ندعو الله الواحد أباً. إذاً صورة الكلام الصحيح التي يدعونا الرسول للتمسك بها، التي في العهد الجديد و التي استخدمها الآباء و التي تُستخدم في تراتيلنا، لا تقول بالله الآب، الله الابن، والله الروح القدس، الثالوث، ثلاثة في واحد و واحد في ثلاثة، تاركةً لنا عبء تفسير هذه المعادلة الإلهية. صورة الكلام الصحيح التي لدينا في الكتاب المقدس، في الآباء، و في تراتيلنا هي: إله واحد آب، ابن الله الوحيد كلمة الله و إله حق من إله حق من ذات جوهر الآب، و روح واحد قدوس، روح الله. بحلول ملء اللاهوت في المسيح جسدياً، كما يقول الرسول، المسيح يحتوي الآب حالاً فيه و هو في الآب كما يقول المسيح في بشارة يوحنا. لذلك الأعمال التي يقوم بها هي أعمال الآب. ما يعمله الله الآب يعمله من خلال ابنه و روحه، يدا الله بحسب تعبير القديس ايريناوس. بهذه الطريقة اولئك الذين نالوا الروح يستطيعون النظر إلى المسيح و رؤية الآب. المسيح هو صورة الله غير المنظور. نحوه وحده ننظر، مُلهَمين من الكتاب المقدس، للقاء الله الواحد، إله ابراهيم و اسحق و يعقوب. بهذه الطريقة نرفع ترنيمة تسبيح وعبادة للثالوث القدوس. هذا بالحقيقة سر، و لكن السر ليس في محاولة التوفيق بين واحد و ثلاثة كمن يحاول تربيع دائرة.
[1] المصدر: http://www.myocn.net/images/stories/podcast/Programming_091120/SMO_091120.mp3 |