النصيب القاتل لأوطان المسيحية - بقلم ويليام دالريمبل - ترجمة إ. عبودأينما ذهبت في الشرق الأوسط اليوم تجد أن الربيع العربي تحول إلى شتاءٍ مسيحي. السنوات القليلة الماضية كانت كارثية بالنسبة لأقلية مسيحية تعدادها أربعة عشر مليون. في مصر صعود الأخوان المسلمين صاحبه مظاهرات مناهضة للأقباط و حوادث حرق للكنائس بين الحين و الآخر. في الضفة الغربية و غزة يهاجر المسيحيون بسرعة حيث يجدون أنفسهم عالقين بين حكومة بنيامين نتنياهو الاستيطانية و مناصرو حماس من جيرانهم المسلمين السنة المتطرفين بتزايد. و أشد كارثية كان العراق حيث هرب ثلثا المسيحيين من البلد منذ سقوط صدام. كانت سوريا هي من استقبل 250000 مسيحي هُجّروا من العراق. أي شخص زار دمشق في السنوات الأخيرة أمكنه أن يرى في حدائقها و مجالس قهواتها لاجئين عراقيين مسيحيين ملتحين دفعتهم عن بيوتهم الجحيم الطائفية التي تبعت نهاية الدولة البعثية. كانوا مدراء بنوك و مهندسين و صيدلانيين و رجال أعمال و أصبحوا يعيشون مع أقاربهم في شقق من غرفة واحدة بما تبقى من مدخراتهم و مساعدات المتبرعين من كنائس مختلفة. "قبل الحرب لم يكن هناك فرق بين مسيحي و مسلم" قال لي شمعون داوود في زيارة قمت بها مؤخراً. كان صاحب دكان للمشروبات الروحية هرب من بغداد بعد أن وصلته تهديدات بالقتل من قبل اسلاميين. التقيت به في بطريركية السريان الأرثوذكس في دمشق حيث جاء ليتلقى مبلغاً منحته البطريركة لللاجئين لكي يسدد به أجاره. قال: "في ظل صدام لم يسألك أحد ما هو دينك و كنا نحضر خدمات بعضنا الدينية. اليوم 75 بالمئة من أصدقائي المسيحيين هربوا." هؤلاء اللاجئون العراقيون يواجهون الآن تهجيراً للمرة الثانية بينما يعاني مضيفوهم السوريون أنفسهم من الخوف اليومي من أن يضطروا للنجاة بحياتهم. أول مخيمات للاجئين السوريين تتم إقامتها في وادي البقاع بلبنان. آخرون يحاولون ايجاد ملجئ لهم في الأردن شمال عمان. أكثر القتل و القتل المضاد دمويةً مما ينشر عن سورية يتم بين السنة و العلويين، و لكن هناك بعض التقارير عن سرقات و اغتصابات و قتل ضد الأقلية المسيحية، و في قرية القصير تمت تصفية المسيحيين بشكل جماعي بتهمة التجسس لصالح النظام. هذه المجموعة التي تشكل حوالي 10 بالمئة من كامل تعداد السكان هي الآن ُمرهبة بشكل صريح. في الجزء الأكبر من المئة سنة الماضية و قبل مجيء عائلة الأسد إلى الحكم كانت سوريا ملجأً أميناً لمسيحيي الشرق الأوسط. قبل قدوم العراقيين بعقود استقبل السوريون برحابة صدر الأرمن الهاربين من مذبحة تركيا الفتاة سنة 1915. في 1948 احتووا الفلسطينيين، مسيحيين و مسلمين، ممن هُجّروا من بيوتهم حين أُنشئت إسرائيل. في السبعينات و الثمانينات أصبح بلدهم ملجأً للمسيحيين الأرثوذكسيين و الموارنة اللاجئين خلال الأحداث الطائفية التي طالت في لبنان. مع أن نظام عائلة الأسد كان نظام دولة أمنية بحزب واحد قمعي حيث كانت الحريات السياسية محدودة بشدة دائماً و بعنف أحياناً، إلا أنها سمحت للسوريين بحريات دينية و اجتماعية واسعة. هذا أعطى أقليات سوريا أماناً و استقراراً فاق بكثير أياً من جيرانهم في أي مكان آخر في المنطقة. هذا يصح بشكل خاص بالنسبة للجماعات المسيحية السورية القديمة. السبب في ذلك هو أن بيت الأسد كانوا علويين، و هي أقلية توافقية شيعية يعتبرها المسلمون السنة هرطوقية و يطلقون عليها من باب الإهانة لقب نصيرية، أو أصاغر النصارى. بالفعل خدمتهم تبدو بشكل جزئي مسيحية المنشأ. العلويون يشكلون 12 بالمئة من تعداد سكان سوريا و عائلة الأسد ابقت نفسها في السلطة عن طريق تكوين تحالف من أقليات سوريا يتمكنون من خلاله من أن يخلقوا توازناً مع حجم الغالبية السنية. في سوريا الأسدية أعياد المسيحيين الرئيسية عطل رسمية، و المسيحيون يحق لهم ألا يذهبوا إلى العمل صباح الأحد، و الكنائس و الأديرة كما هي حال الجوامع تُمنح الكهرباء مجاناً و أحياناً كانت الدولة تمنح من أراضيها لإقامة أبنية جديدة. في القسم المسيحي من دمشق حول باب توما تغمز الصلبان النيونية الزرقاء من أعلى قبب الكنائس و يمكن رؤية مسيرات لشباب الكشافة حاملين الصلبان و هم يحاولون المرور بين حشود من الفتيات المسيحيات اللواتي نزلن إلى المدينة مرتدياتٍ الجينزات و القمصان الضيقة بلا أكمام. هذه ظاهرة لم تكن معروفة في أي مكان آخر في الشرق الأوسط. كان هناك أيضاً تشارك في مساحات العبادة. خلال رحلاتي رأيت مسيحيين يأتون لذبح خروف كنذر لدى مقام النبي هوري الصوفي بينما في دير صيدنايا القريب (الذي أصيب في قصف للقوات الحكومية مؤخراً) وجدت أن الحاضرين في الكنيسة لم يكونوا بمعظمهم من المسيحيين بل من رجال مسلمين ملتحين و زوجاتهم المحجبات. اليوم هذا النسيج من التعددية البشرية و الدينية مهدد بالدمار إلى الأبد. كما في مصر حيث ساند البابا القبطي الراحل شنودة حسني مبارك حتى لحظة سقوطه، الكنائس المؤسسة في سوريا أعلنت منذ بداية الثورة وقوفها خلف النظام. صديقي مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم مطران السريان الأرثوذكس الخبير و المتعدد اللغات في حلب قال في حديث: "نحن لا نساند أولئك الذين يدعون لإسقاط النظام لمجرد أننا نريد الإصلاح و التغيير". في البداية كثيرون من الرعية لم يكونوا واثقين من حكمة هذا الموقف و شباب المسيحيين كانوا ممن نادوا بإنهاء نظام الأسد مرتجين فجراً جديداً من الحرية و حقوق الإنسان و الديموقراطية. و لكن بعد سنة أصبح العثور على مسيحيين مؤيدين للثورة أكثر صعوبةً. هناك تقارير كثيرة عن وجود سلفيين عنيفين من القاعدة يحاربون إلى جانب الجيش السوري الحر بينما أرعب الدعم التركي للمجلس الوطني السوري المعارض السوريين الأرمن. مع تفشي الجرائم و السرقات و انعدام الأمن و سرقة السيارات حتى في مناطق لا قتال فيها و حيث يضعف احتمال بقاء النظام يوماً بعد يوم، يخاف المسيحيون أن يعانوا مصير أخوتهم في العراق قريباً. على الدوام يبقى المسيحيون هنا مضطربون بسبب أفعال أميركا المسيحية. عندما دخل جورج بوش العراق ظن بسذاجة أنه سيضع بدل صدام حكومة سلمية ديموقراطية عربية مؤيدة للولايات المتحدة تستمد من الغرب المسيحي دعمها. في الواقع بعد تسعة سنوات يبدو أنه خلق ساحة حرب طائفية موالية لإيران و شديدة التطرف و عديمة الاستقرار. الآن دعم الولايات المتحدة يصل إلى جماعات المعارضة التي قد تقوم بذات الشيء تجاه الأقليات في سوريا. كما في أفغانستان الثمانينات قد تؤدي عملية مشتركة بين وكالة الاستخبارات الأميركية و المخابرات السعودية إلى وصول سلفيين متشددين إلى الحكم عوض نظام يشوبه الخلل و لكن علماني مع ذلك. إن حدث هذا في سوريا فالموت النهائي للمسيحية في موطن منشئها في الشرق الأوسط يبدو ممكناً خلال أيامنا. |